لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تكرار الكلام أكثر من مرة إذا تكلَّم وذلك ليُفهم عنه ويترسَّخ في أذهان أصحابه .
وفي السنة الصحيحة كما في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم(( أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم سلّم عليهم ثلاث))1
قال الخطابي رحمه الله :(أمَّا إعادته للكلام ثلاثا فإمّا لأنه كان بحضرته من يقصر فهمه عن حفظ ما يقوله فيكرر القول ليقع به الفهم إذ هو مأمور بالبيان والتبليغ وإمّا لأن القول الذي يتكلم به نوع من الكلام المشكِل فأراد دفع الإشكال وإزالة الشبهة منه ) اهـ 2.
وقال ابن بطّال : ( إنّما كان يكرر الكلام والسلام إذا خشي ألاّ يفهم عنه أو لا يسمع سلامه ، وأراد الإبلاغ في التعليم والزجر في الموعظة ، وفيه أنّ الثلاث غاية ما يقع به البيان والاعذار ) اهـ 3.
[color:e289=red]

دواعي التكرار

:
1ـ قد يقع التكرار ليُستحضر ذهن السامع كما في حديث معاذ بن جبل في بيان حق الله على العباد حين ناداه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا كل مرة يقول معاذ لبيك وسعديك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) فتح الباري م1/250 العلم باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم
2) شرح البخاري للكرماني 1/86
3) المصدر نفسه

قال القرطبي في المفهم : ( وإنما كرَّر النبي صلى الله عليه وسلم نداء معاذ ثلاثا ليستحضر ذهنه وفهمه وليشعره بعظم ما يلقيه عليه )1 هذا من الأغراض الأساسية لإعادة الكلام وتكراره .
2ـ وقد يحصل التكرار لأهميته وخطورته كحديث : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر! الاشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ))2
3ـ كما أنه يحسن إعادة الكلام وتكراره إذا كان ذلك الشيء متأصلا في النفوس وشائعا منتشرا في حياة الناس ليُعلَم أنه مِن الأمور التي يجب التخلِّي عنها والحذر منها لخطورتها ، ومن الأمثلة على ذلك ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : (( تخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ، صلاة العصر ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثا))3







ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ج1/203
2) انظر الفتح ( ج5/260) كتاب الشهادات / باب ما قيل في شهادة الزور / رقم 2654
3) نفس المصدر ( ج1/252) العلم / باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم
ومنها ما أخرجه من حديث شريح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن : قيل من يا رسول الله ؟ قال : من لا يأمن جاره بوائقه ))1
قال ابن بطال رحمه الله : ( في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتكريره اليمين ثلاث مرات )2
ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله عليه وسلم (رغم أنف، رغم أنف، رغم أنف، قيل من يا رسول ؟ قال :من أدرك أبويه عند الكِبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة )3
قال النووي رحمه الله ( إنَّ برّهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة أو النفقة أو غير ذلك سبب لدخول الجنة ، ومن قصّر في ذلك فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه .
فكان تكريره للكلام لأهمية بر الوالدين ولاسيما في هذا السن المتأخر لما لهما من فضل عليه بعد الله لتربيته والاعتناء به وتحمل تعبه طيلة هذه الفترة ،فكان الواجب بعد بلوغهما هذا السن من الاعتناء بهما والرِّفق بهما مقابل عملهما وهما أحوج إليه منه والنصيب الأوفر في ذلك للأم لأنها أكثر من تتحمل ولهذا جاءت الوصية بها أكثر من الأب .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) أخرجه البخاري ( الأدب / باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه ) رقم 6016
2) نقلا من فتح الباري ج10/ 443
3) انظر النووي على مسلم (16/108ـ109)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال :أمك ، قال :ثم من ؟ قال :أبوك)) وفي رواية أخرى : بلفظ ((من أحق الناس بحسن الصحبة ؟ قال : أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك أدناك ))1
( فالتثليث في الحديث إنما هو في مقابلة ثلاثة أشياء مختصة بالأم وهي تعب الحمل ومشقة الوضع ومِحنة الرضاع )2
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( صلُّوا قبل المغرب ركعتين، صلُّوا قبل المغرب ركعتين صلُّوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة ))3
وجه التكرار والإعادة لبيان مشروعية الصلاة قبل المغرب وبعد الأذان للدلالة على نفي الكراهية وعلى استحباب فعلها في ذلك الوقت رجاء إجابة الدعاء ، لأنَّ الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) انظر شرح النووي على مسلم (16/106)
2) انظر تحفة الأحوذي ج6/22
3) (كتاب التهجد / باب الصلاة قبل المغرب ) رقم 1183
ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في الصحيح (( أنَّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذا أنه يطيل بهم الصلاة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ ! أفتَّان أنت ، أو أفاتن ! ثلاث مرات فلولا صليت سبِّح اسم ربِّك والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلِّي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة )) وفي رواية : وإنَّ منكم لمنفرين ))1
فوجه التكرار في الحديث إنما هو لتأكيد الإنكار عليه ، وأن ما فعله ليس صوابا بل هو فتنة للبعض بأن يصرفهم عن صلاة الجماعة بسبب هذ1 التطويل ، والسنة التخفيف بالناس مراعاة لأحوالهم وظروفهم ، وقد ورد عن عمر التحذير في أن يكون الرجل سببا في تبغيض عبادة الله إلى خلقه .
روى البيهقي في شعب الإيمان بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: (( لا تبغضوا إلى الله عباده ، يكون أحدكم إماما فيطوِّل على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هم فيه ))2
وهكذا يتبين أن التكرار وإعادة الكلام أسلوب تربوي مهم في إفادة الكلام وبيان أهميته .



كتبه أبو هانئ / نصرالدين بلقاسم



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ( كتاب الأذان /باب من شكا إمامه إذا طوَّل ) رقم 705
2) انظر فتح الباري 2/195