إنَّ اختيار الوقت المناسب وعدم الإكثار على الناس من الوعظ والإرشاد والتذكير مسألة مهمَّة لفهم واستيعاب الخطاب وعدم حصول الملل ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (( كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا ))
ولا يخفى أنَّ حاجة الصحابة إلى توجيهاته وإرشاداته وتعاليمه المتتابعة منه مهمة إلاَّ أنه لم يكن ليكثر عليهم،بل كان يتخولهم مرة بعد مرة بحسب الحاجة والضرورة مراعيا في ذلك نشاطهم ، أو ما فيه حكم شرعي لا يجوز تأخير بيانه عن وقته
وعلى هذا الهدي كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمَّا طلب منه أبو وائل أن يذكِّرهم كلَّ يوم اعتذر عن ذلك واقتصر على يوم الخميس خشية الملل والسآمة عليهم استئناسا واتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا وهو راوي الحديث .
وفي معنى الحديث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الحديث استحباب ترك المداومة في الجِد في العمل الصالح خشية الملال ، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين :
القسم الأول: إما كلَّ يوم مع عدم التكلُّف
القسم الثاني: وإما يوم بعد يوم فيكون يوم الترك لأجل الراحة وليقبل على الثاني بنشاط ، وإما يوما في الجمعة ، وفي هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط )
وقد كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه يوصي غيره بالحث على التقليل من الوعظ خشية الملل فيقول : ( حدث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرات ولا تُمِلَّ هذا القرآن ، ولا ألفينَّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصَّ عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملَّهم ولكن أنصِت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهون ) .
أي يطلبونه ويشتاقون سماعه ، فلا ينبغي التحدث مع الناس في حالة الكسل والإدبار وعدم الرغبة ، وإنما يكون ذلك في حالة النشاط والإقبال والطلب مع الاقتصاد في الكلام ومناسبة المقام ، فلا يُتحدث عن الموت في أوقات الفرح ، وعن الطلاق في أوقات الزواج وهكذا .
وفي جامع أخلاق الراوي وآداب السامع قال الخطيب تحت باب كراهية إملال السامع وإضجاره بطول الحديث وإكثاره : ( ينبغي للمحدِّث أن لا يُطيل المجلس الذي يرويه ، بل يجعله متوسطا ويقتصد فيه حذرا من سآمة السامع وملله ، وأن يؤدي إلى فتوره عن الطلب وكسله ) .
وعن المبرد قال : ( من أطال الحديث وأكثر القول فيه فقد عرَّض أصحابه للملال وسوء السماع ، ولأَن يدع من حديثه فضلة يُعاد إليها أصلح من أن يفضُل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له )
ومن أنسب الأمثلة وأحسنِها مطابقة ما جاء في خطبة الوداع وهي آخر خطبة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قصيرة مع العلم أنَّ الأولى أن تكون طويلة وشاملة لجميع ما يمكن أن يحدثهم ويبين لهم من مسائل الدين وأحكامه ما يجعلهم في غِنى عن البحث والسؤال عنه إلا أنَّ الأمر كان خلاف ذلك والحديث في البخاري في غير موضع منها ( كتاب الحج / باب الخطبة أيام منى )
فلما كان من المعلوم بالبداهة أن المستمِع أسرع مللا من المتكلِّم ، وأنّ القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان كان مراعاة هذا الجانب له أهمية كبيرة في قبول الخطاب واستيعابه ، وقد قيل قديما خير الكلام ما قلَّ ودلَّ .
ومن المفيد في هذا المجال ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :( حدِّث القوم ما (حدجوك) بأبصارهم ، وأقبلت عليك قلوبهم فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم،قيل وما علامة ذلك ؟ قال :إذا التفت بعضهم إلى بعض ورأيتهم يتثآءبون فلا تحدثهم )
وقالت عائشة رضي الله عنها لعبيد بن عمير: ( ألم أُحَدَّث أنك تجلس ويُجلَس إليك ؟ قال : بلى يا أم المؤمنين ، قالت : فإيَّاك وإملال الناس وتقنيطهم )
ويصدِّر الخطيب رحمه الله (باب كراهية التحديث لمن عارضه الكسل والفتور)
قائلا : حق الفائدة أن لا تساق إلاَّ إلى مبتغيها ولا تُعرض إلاَّ على الراغب فيها فإذا رأى المحدِّث بعض الفتور من المستمع فليسكت، فإنَّ بعض الأدباء قال : نشاط القائل على قدر فهم المستمع .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدِّث القوم ما رمقوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترة فانزع .
فمراعاة نشاط القلوب بين إقبالها وإدبارها ورغبتها في السماع والاستماع ونفورها عن ذلك عامل مهم في التحدث إلى الناس أم عدمه إذ التحدث إلى الناس ليس لذاته وإنما ليأتي ثماره في نفوس المتحدَّث إليهم .
وفي سنن الدارمي بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( إنّ للقلوب لنشاطا وإقبالا وإنَّ لها تولية وإدبارا ، فحدِّثوا الناس ما أقبلوا عليكم )
وبإسناد حسن إلى الحسن البصري رحمه الله قال : كان يقال حدِّث القوم ما أقبلوا عليك بوجوههم فإذا التفتوا فاعلم أنَّ لهم حاجات ) .

كتاب العلم / باب ما كان النبي يتخولهم بالموعظة ) رقم 6
نفس المصدر 11/138

فتح الباري 1/216
ج2/ ص127
نفس المصدر 2/127
حديث رقم 1739ـ 1741
أي رموك بها يريد حدثهم ما داموا يشتهون حديثك ، فإذا أعرضوا عنك فاسكت ( النهاية في غريب الحديث 1/352)

انظر شرح السنة للبغوي 1/ 246
الجامع لأخلاق الراوي 1/330
1/119
هذا ما تيسر جمعه في هذا الباب وأسأل الله تعالى أن يعينني مستقبلا فأضيف إليه زيادات بحوله وقوته

كتبه أبو هاني

بارك الله فيك شيخنا وجعله في ميزان حسناتك

شيخنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنةٌ مِن فِقْهِهِ" هل الحديث معناه من هذا الباب ، حيث أن طول خطبة الجمعة مظنة لملل الناس

جزاكم الله خيرا

نصرالدين بلقاسم كتب:

فلا ينبغي التحدث مع الناس في حالة الكسل والإدبار وعدم الرغبة ، وإنما يكون ذلك في حالة النشاط والإقبال والطلب مع الاقتصاد في الكلام ومناسبة المقام ، فلا يُتحدث عن الموت في أوقات الفرح ، وعن الطلاق في أوقات الزواج وهكذا .
وعن المبرد قال : ( من أطال الحديث وأكثر القول فيه فقد عرَّض أصحابه للملال وسوء السماع ، ولأَن يدع من حديثه فضلة يُعاد إليها أصلح من أن يفضُل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له )
ومن المفيد في هذا المجال ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال حدِّث القوم ما (حدجوك) بأبصارهم ، وأقبلت عليك قلوبهم فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم،قيل وما علامة ذلك ؟ قال :إذا التفت بعضهم إلى بعض ورأيتهم يتثآءبون فلا تحدثهم )
وقالت عائشة رضي الله عنها لعبيد بن عمير: ( ألم أُحَدَّث أنك تجلس ويُجلَس إليك ؟ قال : بلى يا أم المؤمنين ، قالت : فإيَّاك وإملال الناس وتقنيطهم )
ويصدِّر الخطيب رحمه الله (باب كراهية التحديث لمن عارضه الكسل والفتور)

أحسن الله إليكم و نفع بكم
مقال رائع نافع يحتاجه المربون و الدعاة في تعاملاتهم و دعوتهم
أراها قلة تلك الفئة التي تعي هذا الجانب و توليه اهتمامها، فقد رأينا هذا كثيرا في مجالس الذكر حيث يطول وقتها إلى ما يزيد عن الساعتين أحيانا، و في المجلس أمهات و عجائز!,,بل حتى الأخوات كنّ "يرقدن" في أثنائه، و تُنبّههنّ المدرّسة بكلامها الجميل الحسن، فهي أبدا لا تنهر و لا تنفّر في ملاحظاتها، لكن درسها كان يطول حتى تسأم الكثيرات، و شخصيا كان ينتابني تعب و نعاس في بعض الأحيان و أتمنى لو أنّ المجلس ينتهي حتى أعي ما تقول المدرّسة إذ كلامها كله فوائد و درر!، لكنه لا يكاد ينتهي إلا و قد أصابنا إعياء و تعب,,

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
أخي الفاضل زادك الله حرصا ونفعك بما تقرأ
أما ما يخص الحديث ، فإنه يدخل فهو عام يشمل كل كلام يقوله المتكلم سواء كان خطيبا أو غيره ، فالخطيب باعتبار أنه يعظ الناس يوم الجمعة ،فمن فقهه أن يقصر الخطبة مع عدم الإخلال بالموضوع حتى لا يسأم ويمل الناس ، والخلاصة أن الحكم عام ،ولا بد من مراعاة أحوال الناس عند التحدث إليهم . والله أعلم