البيان بالفعل وأثره في الاستجابة

لقد ثبت بالدليل الواضح أن البيان بالفعل فيما سبيله العمل أثبت في النفوس من القول ، وأعظم تأثيرا في الإقتداء من الخطاب أو البيان النظري المجرد ، وأما إذا اجتمع القول والعمل في آن واحد فإنّه أقوى وأشد أثرا في الغير .
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة وكان خلقه القرآن كما وصفته عائشة رضي الله عنها ووصفه القرآن قبل ذلك بقوله (( وإنّك لعلى خلق عظيم )) فهو المثل الأعلى والنموذج الحي في الحياة الدعوية والتعليمية .
ففي صحيح البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في صفة وضوءه صلَّى الله عليه وسلم أنه قال :( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غًفر له ما تقدم من ذنبه ) .
قال الحافظ :(في هذا الحديث بيان أن التعليم بالفعل أبلغ وأضبط للمتعلم )1.
ومن الأمثلة أيضا على ذلك ما أخرجه البخاري تحت عنوان ( باب من صلَّى بالناس وهو لا يريد إلاّ أن يعلِّمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ) .
عن أبي قلابة قال :(( جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال : إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ، أصلي كيف رأيت النبي صلى الله يصلى ...))2

ــــــــــــــــــــ
1) فتح الباري 1/344 رقم 159 الوضوء / باب الوضوء ثلاثا
2)2/163 (رقم 677 )
قال الحافظ رحمه الله : وكأنه قال :ليس الباعث لي على هذا الفعل حضور صلاة معينّة من أداء وإعادة أوغير ذلك ، وإنما الباعث لي عليه قصد التعليم وكأنّه تعيّن عليه حينئذ لأنه أحد من خوطب بقوله:((صلّوا كما رأيتموني أصلي )) ورأى أن التعليم بالفعل أوضح من القول)1 .
ومنها حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله قال :(( إنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا ، وشبك أصابعه))2.
قال الحافظ ابن رجب في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري3:(هذا التشبيك من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كان لمصلحة وفائدة ولم يكن عبثا فإنّه لما شبّه شدّ المؤمنين بعضهم بعضا بالبيان كان ذلك تشبيها بالقول ثم أوضحه بالفعل فشبّك أصابعه في بعض ليتأكد بذلك المثال الذي ضربه لهم بقوله ويزداد بيانا وظهورا ويُفهم من تشبيكه أن تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض ، فكما أن أصابع اليدين متعددة فهي ترجع إلى أصل واحدفكذلك المؤمنون وإن تعددت أشخاصهم فهم يرجعون إلى أصل واحد تجمعهم أخوة النسب إلى آدم ونوح وأخوة الإيمان )4 .اهـ


ــــــــــــــــــــ
1) نفس المصدر السابق
2) رواه البخاري (467)
3) الكتاب طبع منه تسعة أجزاء إلى باب السهو والعاشر فهارس بتحقيق مجموعة من طلبة العلم ، والباقي في حكم المفقود
4 ) ج3/ص419ـ420 حديث رقم 481
وفي صلح الحديبية حينما صالح النّبي صلّى الله عليه وسلم المشركين على الهدنة والرجوع إلى المدينة وأن لا يدخل مكة عامه هذا ، شاهد على أنّ التأثير بالفعل أبلغ من القول والرواية كما أخرجها البخاري في المغازي والشروط من رواية الزهري أنّه قال : فلمّا فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه :(( قوموا فانحروا ثمّ احلقوا ، قال : أي الزهري : فو الله ما قدم منهم رجل حتى قال ذلك ثلاثا ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس فقالت أمّ سلمة : ( يا نبيّ الله أتحبّ ذلك ؟ أخرج ثم لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلّم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا ))1 .
فهذه القصّة خير شاهد وأكبر مثال على أنّ الفعل أقوى وأبلغ وأعظم في التأثير من القول المجرد .
ومن الأمثلة على هذا الأسلوب أيضا ما رواه البخاري (في صحيحه)2 عن أبي سلمة قال : دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة فسألها أخوها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم فدعت بإناء نحو صاع فاغتسلت وأفاضت على رأسها ، وبيننا وبينها حجاب .



ــــــــــــــــــــ
1) البداية والنماية م2 /178
2)( باب الغسل بالصاع ونحوه)/ رقم 251

قال الحافظ رحمه الله وفي فعل عائشة دلالة على استحباب التعليم بالفعل لأته أوقع في النفس ، ولما كان السؤال محتملا للكيفية والكمية ثبت لهما ما يدل على الأمرين معا أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع )1 .
وفي حديث : (( ليس المخبر كالمعاين ))2 نجد أنَّ موسى عليه السلام لمَّا أُخبِر أنّ قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح فلما رآهم قد عبدوه ألقاها ، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله لكن لأنّ المخبَر وإن جزم بصدق المخبِِر فقد لا يتصور المخبَر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه ، فلولا ما في البيان بالفعل من أثر جميل في التطبيق والإقتداء وتمثيل للحكم الصحيح الثابت عن الشارع لما كان في قوله معنى حين قال :(( صلّوا كما رأيتموني أصلّي )) في صفة صلاته،وقوله (( خذوا عنّي مناسككم )) في صفة حجّه .
انتهى





ــــــــــــــــــــ
1) انظر فتح الباري (1/365)
2) أخرجه ابن حبان (2088) والطبراني في الكبير( 12451) وأحمد في المسند (1/215ـ271) عن ابن عباس وسنده صحيح وله شاهد من حديث أنس ، وآخر من حديث أبي هريرة

بارك الله فيكم شيخنا
انه امر مهم خاصة لمن يراه الناس قدوة لهم من الاولياء لابناءهم و من المعلمين لتلامذتهم و من العلماء لجميع الناس
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه