والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين و بعد
نحن في زمن كثرت فيه الفتن و عمّت... والفتنة : هي كل أمر مكروه أو آيل إلى مكروه؛ كالإثم والكفر والقتل والفضيحة, وسائر البلاء والمحن .
وقد تنوعت الفتن التي حلت في هذه الأمة في أمر دينها ودنياها, وكلما تقدم الزمن فإذا بالفتن تنتشر وتقوى، قال الزبير بن عدى: (أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج, فقال: اصبروا, فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشرّ منه حتى تلقوا ربكم, سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم)
ولا شكّ أن مصدر هذه الابتلاءات هو التقصير الشديد في العقيدة الصحيحة ، قال الله سبحانه و تعالى :" ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) سورة الروم الآية 124 ، قال أبو العالية رحمه الله في هذه الآية من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود :" لحد يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " . والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس - أو أكثرهم ، أو كثير منهم - عن تعاطي المحرمات ، وإذا ارتكبت المعاصي كانت سببا في محق البركات من السماء والأرض)[ تفسير ابن كثير ]
و قال سبحانه و تعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور: الآية63 ، أي: فليحذر وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا ( أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، ( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: في الدنيا، بقتل، أو حَد، أو حبس، أو نحو ذلك.[تفسير ابن كثير]
فالذنوب مُزيلة للنِّعم، وبها تحُلُّ الفتن و النِّقم ؛ قال - سبحانه -: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الأنفال: 53...وللخروج من هذه الأزمات علينا تتبع الطريقة الصحيحة التي اختارها لنا الله و وضّحها لنا نبينا صلى الله عليه و سلم ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ) سورة فتح : الآية 17.
وتعتبر خطبة الجمعة من بين الوسائل الفعّالة و المنجيّة من كل تلك المهلكات لم لها من مكانة عالية في الشرع و تأثير كبير في سلوك الأفراد .. فهي لقاء ايماني مميز به يصيب المؤمن ثلاثا :
أولا : الاستجابة لنداء ربه تعالى :(‏ يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏,‏ فاسعوا الى ذكر الله‏)‏ سورة الجمعة : الآية‏9 ,‏
ثانيا : تلقي الوعظ و التذكير و الإرشاد
ثالثا : صلاح الأفعال و الأحوال إن شاء الله تعالى .

كيف نستغل هذا اللقاء الإيماني لترسيخ العقيدة في دور المؤمنين و حل المشاكل و السلوكيات الخاطئة

ينبغي الاهتمام بدروس الجمعة ، واختيار المواضيع المهمة التي تعم الحاجة إليها مع اختيار الخطيب الناصح المتمكن من معرفة أحوال الناس ، فالخطيب الفطن يسعى يوم الجمعة الى تعليم الناس و توجيههم التوجيه الصحيح بالأسلوب الحسن، والوسيلة المناسبة وإيضاح المعاني وإقامة الأدلة وما يحتاج إليه المقام في جميع الحالات ليصل المفهوم السليم للعام قبل الخاص و للمسن قبل الفتى و للأميّ قبل المتعلم ، و ذلك تأسيا بالرسول صلى الله عليه و سلم الذي كان يُعلِّم أصحابه في خُطبته قواعد الإسلام، وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا له أمر أو نهي ، "ولحرصه -صلى الله عليه وسلم- على أن يفهم أصحابه كلامه وتعليمه، ثبت في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لِيُفْهِمَ. وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه ) . وكان جابر بن سمرة -رضي الله عنه- يقول: ( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات ) .
و من المواضيع التي ينبغي الاهتمام بها في خطب الجمعة :
_ مواضيع عن العقيدة الصحيحة لتقوية صلة الناس بالله تبارك وتعالى، وتقوية إيمانهم وإسلامهم، ، وتحذيرهم مما يضاد ذلك من الشرك بالله تبارك وتعالى، والخرافات، والشعوذة المنتشرة في مجتمعاتنا الاسلامية .
_ مواضيع توضح معاني العبادة الصحيحة، وما ينبغي أن تكون عليه من موافقة السنة سواء أكانت عبادة ظاهرة أم باطنة، مع التأكيد على الإحسان، ومراقبة الله تبارك وتعالى، وخشيته في السر والعلن.
_ مواضيع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه من سيرة حميدة وأخلاق عالية رفيعة لنهج نهجه ، قال الله تبارك وتعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) سورةالأحزاب: الآية 21
_ مواضيع عن سلف الأمة وعلماؤها ودعاتها ، تبين كيف كانوا ، وما ينبغي من الاستنان والاقتداء بهديهم، والسير على نهجهم، كما يمكن إبراز تاريخ الأمة الإسلامية المجيد، وكيف كانوا في العلم والأخلاق، والحضارة والفضيلة، ومحاولة ربط حاضر هذه الأمة بماضيها المشرق المجيد.
_ مواضيع عامة تناقش ما يهم الناس معرفته، وما أشكل عليهم في حياتهم، وصعب فهمه عليهم، وتقديم الحلول لهم من الكتاب والسنة.
_ مواضيع تقوي الصلة بين المسلمين، وإشاعة مفاهيم الإخاء والعطاء بينهم وحثِّهم على مساعدة بعضهم البعض، وإشاعة روح التكافل الاجتماعي فيما بينهم
_ مواضيع الوعظ لترقيق القلوب، وتحبيب النفوس للخير، وترهيبها من الشر والبدع، وتحذيرهم من الوقوع فيها
هذا لتكون الآثار بعد الخُطبة إيجابية إن شاء الله تعالى ، فالمؤمن العاقل المصدق بالله رباً ومعبوداً وبمحمد صلى الله عليه و سلم رسولاً نبياً، متى سمع تلك الإرشادات والتعليمات والنصائح الصادقة فإنه يعتقدها، ويصدق بمضمونها، وتؤثر في سلوكه وسيرته، ويكون لها الأثر البليغ في أعماله، فيتوب من المعاصي إذا دعي إلى التوبة النصوح، ويواظب على الطاعات متى سمع فضلها وحسن عاقبتها، ويكثر من النوافل التي تقربه إلى رضى ربه وثوابه، حيث رغبه الخطيب في المواظبة عليها، ويتأثر قلبه ويتجدد إيمانه ويقوى يقينه، وترسخ العقيدة في قلبه، فينصرف عن تلك الصلاة وقد رق قلبه وذرفت عينه، وخشع لربه واستكان، وندم على ما فرط فيه في ما مضى من حياته، ونذر نفسه لطاعة ربه، واستبدل بمجالس الشر غيرها، وهجر الخلطاء والزملاء الذين يصدونه عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، ويستبدلهم بجلساء صالحين مصلحين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا ذكر ويقوّون عزيمته، ويعمرون مجالسهم بالعلم النافع والعمل الصالح والذكر والتفكير في آيات الله تعالى ومخلوقاته. وبذلك ينجو من مشاكله اليومية و قبل ذلك من عذاب ربه وسخطه.
فالعلم ثم العمل بكتاب الله و سنة رسوله عليه الصلاة والسلام يحقق الأمن في المجتمعات ويدفع عنها فتن الدين والدنيا ، و لن يعرف العوام من الناس أمور دينهم و شريعتهم في قضايا العبادات والعقائد والأخلاق والسلوك، والقضايا الاجتماعية إلا بهذه الوسيلة القيّمة؛ و لن تكون هذه الوسيلة ناجحة و فعّالة إلا بوجود العلماء وطلاب العلم و بجهودهم الطيّبة . قال - تعالى -: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
نسأل الله ان يهدي عباده و يحفظهم من كل مكروه و سوء و أن يبارك في جهود علمائنا هو الموفق ـ سبحانه ـ والهادي إلى سواء السبيل
المراجع التي اعتمدت عليها :
ـــــــــــــــــــــــــ
* الفتن - من موقع الشيخ سالم العجمي حفظه الله -
* تفسير ابن كثير رحمه الله لسور :الروم ، و النور - من موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة المنورة -
* خطبة الجمعة.. مكانتها، أهميتها، حكمهاو آثارها في نفوس المسلمين - للعلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله ــ موقع بيت الإسلام -
* تعليم الناس أصول العقيدة و تفقههم في الدين -الدكتور أحمد عبد السلام ، من موقع الإسلام الدعوي و الإرشاد -

أم معاوية