الحلقة الثالثة




للضرورة أحكام ، والأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال إلا أنه قد يؤتى بالتفصيل والتوضيح حين الحاجة إليها، أو ما يستدعيه المقام وتلجئه الضرورة ، وذلك لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وهذا ما قررته السنة وبينته . ولتوضيح الكلام فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما ))أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم ؟ فقال : لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران فإن لم يجد فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين ((.
ـ البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن المفتي أو العالم إذا سئل عن واقعة أو مسألة واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال تعيَّن عليه أن يُفصِّل الجواب .





ويقول ابن دقيق العيد موضحا ورافعا الإشكال الذي جاء عن بعض الأصوليين أن الجواب ينبغي أن يكون مطابقا للسؤال :
( وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال فليس مراد المطابقة عدم الزيادة بل المراد أن يكون الجواب مفيدا للحكم المسؤول عنه ) اهـ
وأما الإنكار على من يتوسع في الجواب ويعيب ذلك لعدم اقتصاره على القدر المطلوب في السؤال فقد أجاب ابن القيم رحمه الله على هذا وكشف عن اللبس فقال: ويجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه ، وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده ، ومن عاب ذلك فلقلة علمه وضيق عطنه وضعف نصحه .اهـ
ومن الأمثلة الشاهدة على هذا الكلام ما بينته السنة الصحيحة كما في موطأ مالك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته .
وفي بيان الحكمة في الزيادة في هذا الحديث يقول أهل العلم رحمهم الله قال ابن دقيق العيد : فإن قيل لًَم لم يجبهم حين قالوا : أفنتوضأ به ؟ قلنا لأنه يصير مقيدا بحال الضرورة وليس كذلك ، وأيضا لأنه يفهم من الاقتصار على الجواب بنعم أنه إنما يتوضأ به فقط ولا يتطهر به لبقية الأحداث والأنجاس .
وقال الخطابي : وفي الحديث دليل على أن المفتي إذا سئل عن شيء علِم أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه ، ولم يكن ذلك تكلفا لما لا يعنيه لأنه ذكر الطعام وهم سألوه عن الماء لعلمه أنهم قد يعوزهم الزاد في البحر .
ونحوه قال الرافعي رحمه الله : ولما عرف النبي صلى الله عليه وسلم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته ، وقد يبتلى بها راكب البحر فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة ، وعن أهمية هذا الأسلوب وحاجة السائل إلى زيادة ما يحتاج إليه مما قد يصادفه لاحقا ، يقول ابن العربي رحمه الله: وذلك من محاسن الفتوى بأكثر مما سئل عنه تتميما للفائدة وإفادة لعلم آخرغير المسؤول عنه ، ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم .
وفي قصة يوسف عليه السلام وصاحبيه في السجن لمَّا سألاه عن تفسير رؤيا (( قال أحدهما إنِّي أراني أعصر خمرا وقال الآخر إنِّي أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبأنا بتأويله إنَّا نراك من المحسنين )) يوسف / 36
فأجابهما يوسف عليه السلام بقوله (( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأبآؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله )) يوسف 39ـ40
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : ومن فوائد الآيات أنه يبدأ بالأهم فالأهم ، وأنه إذا سئِل المفتي وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله ، فإنَّ هذه علامة على نصح المعلِّم وفطنته وحسن إرشاده وتعليمه ، فإنَّ يوسف عليه السلام لمَّا سأله الفتيان عن رؤياهما وكانت حاجتهما إلى التوحيد والإيمان أعظم من كلِّ شيء قدَّمها . اهـ