تعبير الرؤى علم قائم بذاته يحتاج إلى ذكاء خارق, وعلم جمّ بأصول التعبير المستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ومن الأمثال وأصول اللغة وغير ذلك من المصادر.
ولكن يأسف المرء من التخليط والتخبيط الواقع في تفسير الرؤى وتأويلها, فتسمع أحيانا بعض المعبرين لا يملك مثقال ذرة من علم شرعي, يخبط في تأويله ويضلل الخلق بتفسيره.
وقد وقع لي من قبيل التجربة اشتغال بهذا العلم زمناً وقد رأيت العجب العجاب من أحوال المعبرين الذين أكاد أجزم أنهم لم يقرؤا يوماً كتاباً في أصول تعبير الرؤى, وإنما مبلغ علمهم الرجوع إلى التفسير المنسوب إلى ابن سيرين, ولم يعلم هؤلاء أن الرؤيا الواحدة يختلف تفسيرها باختلاف الرائي ومكانه وزمانه وحاله.
قال القرطبي رحمه الله في كتابه المفهم: "..... وبالجملة: فالمعتبر في أعظم أصول العبارة: النظر إلى أحوال الرائي واختلافها، فقد يرى الرائيان شيئًا واحدًا، ويدلُ في حق أحدهما على خلاف ما يدل عليه في حق الآخر".
ويقول العلامة صديق حسن خان في كتابه أبجد العلوم: ".... ثم إن علم التعبير: علم بقوانين كلية، يبني عليها المعبِّر عبارة ما يقصُّ عليه وتأويله، كما يقولون: البحر يدل على السلطان.
وفي موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ.
وفي موضع آخر يقولون: البحر يدل على الهم والأمر الفادح.
ومثل ما يقولون: الحية تدل على العدو.
وفي موضع آخر يقولون: هي كاتم سر.
وفي موضع آخر يقولون: تدل على الحياة.
وأمثال ذلك، فيحفظ المعبِّرُ هذه القوانين الكلية ويعبِّر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين، ما هو أليق بالرؤيا.
وتلك القرائن منها: في اليقظة، ومنها: في النوم، ومنها: ما ينقدح في نفس المعبِّر بالخاصية التي خلقت فيه، وكلٌّ ميسر لما خلق".
وبالجملة فإن المعبّر للرؤى ينبغي أن تتوفر فيه شروط ذكرها العلماء منها:
1- العلم بأصول تعبير الرؤى ومصادرها.
قال ابن جُزي في كتابه [القوانين]: "ولا ينبغي أن يعبر الرؤيا إلا عارف بها، وعبارتها على وجوه مختلفة، فمنها مأخوذ من اشتقاق اللفظ، ومن قلبه، ومن تصحيفه، ومن القرآن، ومن الحديث، ومن الشعر، ومن الأمثال، ومن التشابه في المعنى، ومن غير ذلك، وقد تعبر الرؤيا الواحدة لإنسان بوجه، ولآخر بوجه آخر حسبما يقتضيه حالهما".
كما ينبغي أن يكون عارفاً بأقسام الرؤى, فمنها رؤى حق وصدق تأوّل, ومنها أضغات أحلام لا يلتفت إليها, ومنها رؤى شيطانية لا ينبغي تفسيرها بل تكتم.
وأصول تعبير الرؤى ومصادرها ترجع في العموم إلى:
القرآن الكريم و الحديث الشريف وإلى المعنى والقياس والتشبيه وإلى الأسامي واشتقاق اللغة
فالتعبير بدلالة القرآن الكريم :
كالحبل تعبره بالعهد لقولة تعالى : " واعتصموا بحبل الله " .
وكالطفل الرضيع تعبره بالعدو لقوله تعالى " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا "
التعبير بالسنة :
كالغراب يعبر بالرجل الفاسق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فويسقا .
والفأرة بالمرأة الفاسقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة .
أما التعبير بدلالة المعنى والقياس والتشبيه :
كالنار تعبر بالفتنه لأن النار تفسد كل ماتمر عليه وتتصل به وكذلك الفتنه .
والثعلب يعبر برجل غادر ماكر محتال مراوغ عن الحق
أما التعبير بالأسامي واشتقاق اللغة :
كمن رأى رجلا يسمى راشد يعبر بالرشد
وان كان يسمى سالما يعبر بالسلامة
روى مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "" رأيت ذات ليلة _ فيما يرى النائم _ كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من رطب ان طاب
, فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة وأن ديننا قد طاب "
2- معرفة حال الرائي, ومنزلته, وطبائع الناس وأقدارهم:
إذ يختلف تعبير الرؤى باختلاف الأشخاص, والأماكن والبلدان.
قال علي القارئ في [المرقاة]: "والحاصل أن الرؤيا مختلفة باختلاف الرائي، فإنه قد يكون سالكاً من مسالك طريق الدنيا، وقد يكون سائراً في مسائر صراط العقبى، فلكل تأويل يليق به ويناسب بحاله ومقامه، وهذا أمر غير منضبط، ولذا لم يجعل السلف فيه تأليفاً مستقلا جامعاً، شاملاً كافلاً لأنواع الرؤيا، وإنما تكلموا ببعض ما وقع لهم من القضايا، ولذا لم تلق مُعَبِّرَيْنِ يكونان في تعبيرهما لشيءٍ متفقين".
قلت: وعلى هذا فإن الفِطنة، كل الفطنة عند المعبر أن يراعي هذه الاختلافات المذكورة، فلا يصلح له عند إرادة التعبير أن يمسك ( القاموس )، معتمداً عليه دون مراعاة هذه الأحكام، فإن هذا مخالف للقوانين التي أرادها من وضع هذه ( القواميس ) من أهل العلم.
3- التقوى والصلاح:
ينبغي أن يكون المعبّر على قدر عظيم من تقوى الله وخشيته, لأن التعبير يحتاج إلى توفيق وسداد من الله جلّ وعلا.
قال ابن قتيبة رحمه الله – بعد أن ذكر بعض أصول تعبير الرؤيا- : "... ولن تُغني عنه معرفة الأصول، إلا أن يُمِدَّهُ الله بتوفيق يُسدد حُكمه للحق، ولسانه للصواب، وان يحضُرَهُ الله تعالى تسدِيدَه، حتى يكون طيب الطعمَةِ، نقياً من الفواحش، طاهراً من الذنوب.
فإذا كان كذلك، أفرغ الله عليه من التوفيق ذَنُوباً؛ وجعل له من مواريث الأنبياء نصيباً".
والخلاصة ينبغي أن لا تقص رؤياك إلا على عالم بأصول التعبير, ملماً بأصولها التي ذكرناها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
كتبه وحرّره: أبو يزيد المدني
الرئيسية 
الخميس 29 ديسمبر 2022 - 11:57
موضوع: سؤال عن مواصفات مفسر الأحلام 
السبت 23 أكتوبر 2010 - 2:40
