الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:
سألني بعض الأفاضل الأماجد عن حكم لبس الرجال للساعة المطلية بالذهب, أو الساعة التي عقارها من ذهب ونحو ذلك.
فأجبته بقولي:
إنّ من المسائل التي عمّت بها البلوى, وتوجّب فيها بيان الحكم والفتوى؛ مسألة لبس الرجال ليسير الذهب التابع للباس آخر, كعقارب الساعة, أو أزرار القميص, أو إطار النظّارة, ونحو ذلك, سواء كان الذهب منفصلاً, أو طلاءً مموهاً, ونحو ذلك.
وفيما يأتي بيان الحكم الشرعي, مقروناً بدليله, وبالله التوفيق:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين.
القول الأوّل:
تحريم لبس الذهب على الرجال مطلقاً كثيراً كان أم قليلاً.
وهو مذهب الجمهور, من المالكية والشافعية والحنابلة, والحنفية في قول (انظر: المجموع شرح المهذب 4/325, والمغني 2/304).
ودليلهم في ذلك:
1- النصوص العامّة الدّالة على تحريم الذهب على الرجال مطلقاً, من غير فرق بين اليسير والكثير, ولم يرد ما يخصصها, ومن ذلك: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ النبي الله صلى الله عليه وسلم : أخذ حريرا فجعله في يمينه ، وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال : " إن هذين حرام على ذكور أمتي " (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة).
2- ما روته أسماء بنت يزيد ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يصلح من الذهب شيء ، ولا خربصيصة" (رواه أحمد وإسناد ضعيف).
وفي رواية: "من تحلى أو حلّى بخربصيصة ذهب كوى به يوم القيامة" (رواه أحمد وإسناد ضعيف, والخربصيصة - كما في النهاية-: هي الهنة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة).
3- أنّ الشرف والخيلاء, وكسر قلوب الفقراء, كلّها علل ظاهرة في كثير الذهب وقليله.
القول الثاني:
يباح للرجل لبس اليسير من الذهب التابع لغيره, كعقارب الساعة, والطّراز في الثوب, وأزار القميص ونحو ذلك.
كما يباح له المطلي بالذهب من أنواع الألبسة والمتاع.
وهو مذهب الحنفية, وأحمد في قول, وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وحددوا هذا اليسير بمقدار أربعة أصابع فما دونها (انظر: رد المختار 6/352, ومجموع الفتاوى
21/87).
ودليلهم في ذلك:
1- ما رواه معاوية رضي الله عنه أنّ رسول الله : "نهى عن لبس الذهب إلاّ مقطّعاً, وعن ركوب المياثر" (رواه النسائي, وأحمد).
فالحديث – عندهم – نصٌّ في جواز لبس الذهب للرجال إذا كان مقطّعاً, والمقطّع هو اليسير الصغير.
2- ما رواه أنس رضي الله عنه قال: إنّه بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة من ديباج منسوج فيها الذهب ، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد المنبر ، فقام - أو قعد - فجعل الناس يلمسونها ، فقالوا : ما رأينا كاليوم ثوبا قط ، فقال : " " أتعجبون من هذه ؟ لمناديل سعد في الجنة خير مما ترون " (رواه الترمذي, والنسائي, وحسنه الألباني).
المناقشة والترجيح:
الراجح - والله تعالى أعلم - هو القول الأول, أي: تحريم لبس الذهب على الرجال مطلقاً يسيره, كثيره, تابعه ومستقلّه.
وهذا للاعتبارات الآتية:
1- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حرّم لبس الذهب على ذكور هذه الأمة مطلقاً, دون تقييد ليسيره أو تابعه.
أ- أما ما ذكر من تخصيص هذا المطلق بحديث معاوية المتقدّم, فيجاب عنه:
- بأنّ حديث معاوية مختلف في صحته, فلا يعارض به الثابت الصحيح الصريح.
- اعترض بعض المعاصرين – كالألباني رحمه الله- على حديث معاوية بأنه خاص بالنساء دون الرجال, إذ المراد بالمقطع القطع غير الموصولة كالتي تأتي على هيئة الحلقة.
ب- أما ما ذكر من لبس النبي صلى الله عليه وسلم للحلة المنسوجة بالذهب, فيردّ عليه من وجوه:
- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لبس هذه الحلة قبل تحريم الذهب والحرير على الرجال, كما جاء ذلك مصرحاً به في رواية النسائي وفيها: " "وأهداها إلى عمر، فقال: يا رسول الله، تكرهها وألبسها ، قال : "يا عمر، إني إنما أرسلت بها إليك لتبعث بها وجها تصيب بها، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير" (وجوّد الألباني إسناد هذه الرواية).
والواقعة واحدة رويت بألفاظ عديدة, ذكر في بعضها حلة من ديباج, وبعضها حلة منسوجة من ذهب. فتبيّن من ذلك أنّ اللبس إنما كان قبل ورود التحريم.
- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبس الجبة المنسوجة بالذهب زينة, وإنما لبسها غيضاً للكفار وإظهار لعزة الإسلام, فلما تحققت الغاية بادر إلى نزعها.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تكرار لبس هذا النوع المنسوج بالذهب.
2- أنّ العلماء اتفقوا على تحريم يسر الذهب في الآنية, والتفريق بينها وبين الملبوس تفريق بين المتماثلات.
3- أنّ العلة في تحريم الذهب على الرجال متعيّنة في قليله وكثيره.
(وهي أنّ لبس الرجل للذهب فيه إسراف وخيلاء وكسر لقلوب الفقراء لأن لبسهم له يظهر, بخلاف لبس النساء لا يظهر غالباً لكونهن مأمورات بالستر.
ولأنّ لبس الرجال للذهب فيه مشابهة للنساء, ومنافاة للرجولة).
4- أنّ اليسير من الذهب غير محدّد, والأحكام الشرعية لا تبنى على المضطرب, فما هو يسير عند البعض, لا يعتبر يسيراً عند الآخرين.
أمّا حدّ اليسير بأربعة أصابع قياساً على الجائز من الحرير, كما في حديث عمر: حديث عمر رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا موضع أصبعين ، أو ثلاث ، أو أربع " رواه مسلم.
فهو قياس فاسد, إذ الحديث نص في الحرير لا يقاس عليه غيره.
5- أنّ في تحريم الذهب على الرجال مطلقاً سدّ لباب التهمة.
إذ عامة الناس يجهلون دقائق الأحكام الفقهية, فيسيئون الظن بلابس الذهب اليسير, أو قد يظن بعضهم حين يرى المقتدى به – من أهل العلم- أنّ لبس الذهب مباح للرجال مطلقاً, وفي هذا من المفاسد ما ليس بخاف.
فالقول بتحريم الذهب على الرجال مطلقاً فيه سدٌ لمثل هذا الباب.
والله تعالى أعلم.
كتبه وحرّره: أبو زيد المدني.
الرئيسية 
الخميس 29 ديسمبر 2022 - 11:57
موضوع: حكم لبس الرجال للساعة المطلية بالذهب 
الإثنين 10 مايو 2010 - 14:48
