الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:
إنّ الأصل الذي دلّت عليه النصوص الشرعية في أعمال العباد, أنّ ثوابها ووزرها على فاعلها, قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى}, وقال جلّ وعلا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
أمّا ما أهدى فاعلها من ثوابها لغيره, فالحكم ببلوغ الثواب وصحة ذلك الفعل منه أو عدمه, يختلف باختلاف نوع العمل, وفيما يلي تفصيل ذلك, إذ بالتفصيل يتّضح السبيل:
اعلم أخي وفقك الله لمعرفة الحق واتّباعه, أنّ القرب والأعمال التي يُهدي الناس ثوابها للأموات على أقسام ثلاثة:
القسم الأول: ما لا يصل إلى الميّت ثوابه بالاتفاق
وهذا القسم قد حجر الله ثوابه على عباده, مثل سائر الأعمال القلبية, كالإيمان, والتوحيد, والخوف من الله, وغير ذلك (انظر: الفروق للقرافي 3/343).
القسم الثاني: ما يصل ثوابه إلى الميّت بلا خلاف
وهي الأعمال التي صحّ فيها الدليل الصريح, ومنها:
1- الصدقة الجارية:
وهي التي حُبِس أصلها, وأُجري نفعها, كحفر الآبار, وبناء المساجد, وغيرها.
2- العلم النافع:
ويدخل فيه التأليف, والتعليم, والدعوة إلى الله بأي وسيلة مشروعة.
3- دعاء الولد الصالح واستغفاره لوالديه.
بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا رب ، أنى لي هذه ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك "(رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني).
وعن أبي هريرة قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره ، أو ولدا صالحا تركه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا كراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته ، تلحقه من بعد موته "(أخرجه ابن ماجة, وصححه الألباني).
4- الصدقة عنه:
عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال : "نعم "(رواه البخاري).
وقد حكى النووي في المجموع الإجماع على وصول ثواب الصدقة عن الميت.
5- الحج عن الميت والاعتمار عنه بعد موته:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء" (رواه البخاري).
6- الصوم عن الميت:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن أختي قد نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان عليها دين أكنت قاضيه "قال: نعم، قال: "فاقض الله، فهو أحق بالقضاء" (متفق عليه).
القسم الثالث: أعمال مختلف فيها, كقراءة القرآن عن الميت, والتصدق عليه بثوابها
ولأهل العلم في هذا النوع من الأعمال قولان مشهوران:
القول الأوّل: أنه لا يصل
وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي
ودليله رحمه الله:
- انعدام النص الخاص في مثل هذه الأعمال.
- واستصحاباً للأصل في أنّ ثواب العمل حجر على صاحبه.
- ولأنّ هذه الأعمال عبادة, والأصل في العبادات التوقيف.
- ولأنه لم يرد عن سلف الأمة الأخيار إهداء مثل هذه الأعمال إلى أمواتهم, ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
وقد ذهب إلى هذا القول طائفة من العلماء المعاصرين كالشيخ ابن باز رحمه الله, والشيخ بكر أبو زيد رحمه الله, وغيرهما.
القول الثاني: أنّ ثواب هذه الأعمال يصل إلى الميّت
وهو مذهب الجمهور (الأئمة الثلاثة), بل زعم ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه محل إجماع - وفي هذا نظر -.
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال رحمه الله: "أما القراءة، والصدقة وغيرهما من أعمال البر، فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية، كالصدقة والعتق، كما يصل إليه أيضا الدعاء والاستغفار، والصلاة عليه صلاة الجنازة، والدعاء عند قبره. وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية: كالصوم، والصلاة، والقراءة، والصواب أن الجميع يصل إليه" (مجموع الفتاوى 24/366).
ودليلهم في ذلك:
- قياس هذه الأعمال على الحج والدعاء والاستغفار, لأنّ التفريق بينها وبين هذه الأعمال تفريق بين المتماثلات, لأنه ليس ثمة خاصية اقتضت وصول ثواب الحج والدعاء, ومنعت وصول ثواب هذه الأعمال (انظر: الروح لابن القيم 191).
- وأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن آية النجم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى}, وحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله".
فقال: "ليس في الآية ولا في الحديث أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له وبما يعمل عنه من البر بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فمن خالف ذلك كان من أهل البدع.
إلى أن قال: " وأما الآية فللناس عنها أجوبة متعددة . كما قيل : إنها تختص بشرع من قبلنا وقيل : إنها مخصوصة وقيل : إنها منسوخة وقيل : إنها تنال السعي مباشرة وسببا ، والإيمان من سعيه الذي تسبب فيه ، ولا يحتاج إلى شيء من ذلك بل ظاهر الآية حق لا يخالف بقية النصوص ، فإنه قال : { ليس للإنسان إلا ما سعى } وهذا حق فإنه إنما يستحق سعيه فهو الذي يملكه ويستحقه . كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو . وأما سعي غيره فهو حق وملك لذلك الغير لا له لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره كما ينتفع الرجل بكسب غيره" (مجموع الفتاوى 24/306).
والخلاصة:
أن إهداء الثواب للميت لا يخلو من ثلاث حالات:
1- أن يكون مما لا يصل إلى الميت بالاتفاق, كالإيمان, والتوحيد, والتوكل.
2- أن يكون مما يصل إلى الميت إجماعاً, كالعلم النافع, والصدقة والدعاء, والحج, والصدقة بأنواعها.
3- ما كان مختلفاً في وصول ثوابه للميت كإهداء بعض القرب, كقراءة القرآن وغيرها, فالراجح فيها الجواز والله تعالى أعلم.
ومن ذلك ما اقترحه الإخوة الكرام من كتابة صفحات من كتب معينة وإهداء ثوابها إلى الأخ أبي حذيفة رحمه الله.
فالراجح جواز ذلك - والله تعالى أعلم - وإن كان خلاف الأولى, فالصدقة والدعاء, والاستغفار له هو المتعيّن في كلّ حال.
والله تعالى أعلم, وهو الأعز الأكرم.
كتبه وحرّره: أبو يزيد المدني
الرئيسية 
الخميس 29 ديسمبر 2022 - 11:57
موضوع: بخصوص إهداء ثواب عمل خيري لميت 
الثلاثاء 4 مايو 2010 - 11:02
