الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
إن الله -جل و علا- جعل هذه الدنيا دار إبتلاء و تمحيص لقلب المؤمن , بجملة من الفتن التي تلقاه في هذه الدنيا, من ملذات دنيوية سواء في أهله أو ماله أو ولده , و شبهات تتخلل أمور دينه في العقيدة أو المنهج أو العبادة , يقول الله -جل في علاه- :" الم * أَحسب النّاس أَن يتركوا أن يَقولُوا آمَنّا وَهم لا يفْتَنونَ * ولَقد فَتنّا الَّذينَ مِن قَبلِهمْ فلَيعْلَمَن اللَّه الَّذينَ صدَقوا وَلَيعلَمنّ الْكاذبينَ ", وأصل كل هذه الفتن إتباعُ الهوى و مخالفةُ طريقِ الكتاب و السنة وعملِ الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- , وقد أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم لخطر الفتن على المسلم الموحِّد في غير ما موضعٍ , وحذَّر منها أشدَّ التحذير , وبيَّن سُبُلَ الوقايةِ منها ، و طريقَ النجاةِ من الوُلوجِ فيها , و من أشهر الأحاديث في هذا الباب ما رواه مسلم من حديث حذيفة قال :" سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول :" تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً , فأيُّ قلبٍ أُشرِبها نُكتَ فيه نُكتةٌ سوداء ، و أيُّ قلبٍ أنكرها نُكتَ فيه نُكتةٌ بيضاء , حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصّفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض , والآخر مُرباداً كالكوز مجخِّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه".
وفي عصرنا هذا تنوعت أشكال الفتن بنوعيها فكثُرت و سائلها و تعددت طرقها , من قنوات فضائية تبث أنواع الشهوات , ببث برامج إغرائية و تقدبم برامج موجهة لإفساد أخلاق المجتمع وبث القيم الدنيئة , وتلويث العقول بأفكار ضالة تدعوا في مجملها للانحلال و المجون , مخالفة لقيمنا الإسلامية و مجتمعاتنا المحافظة .
ولك أخي الحبيب بعضا من الوسائل المفيدة التي تساعدك في اجتناب الفتن والعيش الحياة السعيدة :
الإخلاص : وهو رأسُ مال المسلم و دليل سعادته في الدنيا و الآخرة , والطّريقُ الموصلُ لرضا ربه جلّ في علاه فهو ميزة خاصة بينه و بين عبده لا يطّلع عليها غير الله تعالى , يؤمِّنه من الفتن بقدر إخلاصه في عبادته وتقواه , لذا فالإخلاص من أوجب الواجبات و أصعب التكليفات يقول الشيخ محمد على فركوس - أعزّه الله – في رسالته الإخلاص بركة العلم وسر التوفيق:"إن الصدق في الإخلاص أشقُّ الأعمال صعوبة على النفس , و أشدها على القلب لاستبقائه سالماً من المقاصد السيئة , بعيداً عن أغراض الدنيا وشهواتها , ذلك لأن القلوب كثيرة التقلُّب والتحوّل في نواياها ومقاصِدها ...".
تلاوة القرآن : فهو حبل الله المتين والعروة الوُثقى التي تربط العبد بربه فتجعل قلبه متصلا بخالقه ومولاه مستغنياً عن من سواه ،ففيه قصص عديدة عظيمة , في ثبات الرسل و وقوفهم في وجه مختلف الشبهات والشهوات .
مُدارسة السيرة النبوية: ففيها العبر والعظات و الدروس النيِّرات من مواقف رسولنا المصطفى نستشف منها ثباته على الحق وابتعاداً عن مواطن الفتن و الدخن, وكذا صحابته الأشراف الأخيار .
الحرص على اتِّباع السنة : فبغيرها لا يمكن للمسلم اجتناب أعتى فتنة وأشدها على الأمة الإسلامية ألا وهي فتنة الافتراق و التشرذم مصداقاً لحديث رسول الله :" من يعش منكم فسيرى إختلافا كثيرا , فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي… ", و الاستقامة على دين الله والفوز برضاه و النجاة ,
الرفقة الصالحة : فالمرء على دين خليله كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام , فمن كان جليسه من أهل التقوى والحرص على الخير ومن أتباع المنهج المستقيم , فسوف ينجوا بفضل الله القائل جلّ في علاه : " واصبر نفسك مع اللذين يدعون ربّهم بالغداة والغشي يريدون وجهه ".
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهي من أهم الأسباب التي تؤدي إلى قلّة الفتن بل والهلاك كما في قوله عليه الصلاة والسلام :" لتأمرن بالمعروف و لتنهون عن المنكر أو يوشك أن يعمّكم الله بعقاب من عنده .." , فإذا أُمر بالمعروف بمعروف ونُهي عن المنكر بالمعروف , استقامت الأمور ولزم كل منَّا حدوده الشرعية , و أُنزل الناس منازلهم .
اجتناب مجالس اللهو: والتي تعدّ من منابع الشرور والفتن التي تبث الشهوات المحرمة , بتعدد اتجاهاتها من الزنا و الخمور والقمار والغيبة والنميمة , و في بعض الأحيان تجد فيها حتى الاستهزاء بالدين بل و التطاول على الذات الإلهية والله المستعان , يقول الله تعالى :" وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديث غيره"
ترك مجالسة أهل الفتن : كذلك من الأمور المعينة على الثبات اجتناب مجالس أهل الفتن الذين جعلوا منها مرتعا لأكل لحوم العلماء بلا حجّة ولا برهان إلا قيل وقيل , واصطياد زلات إخوانهم وهفواتهم ممن قد يكونوا تقدّموا عليهم في التحصيل بأميال , فكان مجالسهم ملهاة ومفرغة لرذائل أقوالهم , فإياك إياك أخي الحبيب منهم , فهم موتى القلوب مفتونين بفتنة التقليد الأعمى و التعصب المذموم و الفهم السقيم , وكم شاهدنا من كانت نهاياتهم – والله المستعان - إلى انحراف عن الدين القويم و انصراف إلى ما يغضب الربّ العليم .
الإبتعاد عن مواطن الفتن : ومن أسباب النجاة من الفتن الإبتعاد عن مواطنها , واجتنابها قدر المستطاع , ويؤيد هذا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرفه، فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل" صحيح الجامع للألباني , 3623
الدُّعـاء : وهو باب يغفل عنه الكثير و يتساهل في القيام به العديد ممن أراد النجاة من الفتن , وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يدعوا فيقول :" يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك", وقوله :" اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ..."
تحصين النفس : ومن الأسباب المعينة على مجانبة الفتن تحصين النفس قدر المستطاع , ولأنه في زمننا هذا طغت فتنة النساء في جانب الشهوات فأصبح الزواج هو الحل الأمثل لدرئها , ففيه عدَّةُ فوائد و خاصة إن وفقك الله إلى زوجة صالحة متفقهة في دينها :" من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنَّه أغض للبصر، و أحصن للفرج ".
الإرتباط العلماء بملازمتهم : وهو من أهم الأسباب المؤدية إلى إجتناب الفتن و خاصة عند التطام أمواجها ، فينبغي التحصُّن بسؤالهم و الإكتفاء بأقوالهم وآرائهم في مدلَهِمَّات الأمور و شوائب المسائل , قال الشيخ لزهر سنيقرة حفظه الله – في مقال بعنوان احذروا الفتن بمجلَّة الإصلاح العدد 24 : "و من أسباب النجاة من الفتن : الإلتفاف حول العلماء الربانيِّين ، فهو من أهم العوامل المعينة على الثبات و عدم الزيغ و الإنحراف وقت حدوثها ، و هُم من يصدق فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلَّم " إنَّ من النَّاس مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشَّر ".
إجتناب مجالسة أهل البدع : وهذا الباب – أي مجالسة أهل البدع- من أوسع الأبواب التي تؤدي إلى افتتان المرء في دينه , فيمتلئ قلبه شبهات خادعة وأراجيف باطلة وأفكار مغلوطة , تطرحه في وحل الابتداع دون أن يشعر , وإن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في العلم فيُفتتن بكلامهم , وقد وردت نصوص كثيرة من الأئمة الأعلام في التحذير من مجالستهم , منها قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "لا تجالس أهل الأهواء: فإن مجالستهم ممرضة للقلب" الإبانة الكبرى لابن بطة 2/438.
هذه جملة من الوسائل المعينة على الثبات على دين الله عزّ وجلّ,أردت مشاركتكم بها في هذه السلسلة الطيبة , وإن السعيد لمن جُنّب الفتن, نسأل الله أن يعيننا على العمل بها و أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن, إنَّه بالإجابة قدير فهو المولى و نعم النصير , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .