كان السلف رحمهم الله يرون أن من تعظيم العلم حضور مجالسه. وأن من آفاته التغيب عن دروسه، قال الزرنوجي رحمه الله في كتابه " ينبغي ألا يكون لطالب العلم فترة؛ فإنها آفته " ولقد شددوا في الحضور واعتبروا ذلك من الصبر على تحمله، وربما استدلوا بحديث الرجل الذي أعرض عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض الله تعالى عنه , ومن عنايتهم رحمهم الله بهذه المسألة تفقد أحوال طلابهم؛ ومعرفة سبب غيابهم , والقصص في ذلك عنهم مشهورة , ومن ذلك أن ابن حجر رحمة الله كان يقدم تلميذه السخاوي رحمه الله؛ ويجلسه بجانبه. وذات يوم تأخر، فجاء وجلس في آخر المجلس، ولما كان النور خافتا لم يره شيخه، فسأل عنه .

ومما ينوه به أن للمحدثين قصب السبق في هذا المجال، فقد كانوا يسجلون أسماء الحضور والغائبين في الطباق . ولقد احتفظ التراث لنا بهذا الصنيع. حيث نجد ذلك مثبتا في كثير من المخطوطات ألحديثيه وبعض الكتب المطبوعة منها , والمتأمل في بعضها يلمس دقة التحري في إثبات الحاضرين , فالحضور عندهم نوعان : حضور جسدي وحضور معنوي ، وهم يحرصون عليه معا , فلا يكتفي عندهم بذكر كلمة " حضر السماع " بل يتتبع في ذلك الحالة التي كان عليها الطالب أثناء سماعة في المجلس . ومثال ذلك السماعات التي كتبت في آخر الجزء الثامن من السنن الكبرى للبيهقي رحمه الله ، إذ نقرأ فيها ما يلي :

1_ إثبات من حضر جميع مجالس السماع , كما في ص 346:" سمع جميع هذا الكتاب وهو المجلد الثامن من السنن الكبير للبيهقي ....." .

2_ إثبات من حضر جميع المجالس لكن فاته بعضها , كما في ص 350 :" و الفقير عبد الله بن يوسف بن أبي الفوارس المعدني الحنبلي فاته المجلس السابع والستون بعد خمس المائة، والمجلس الموفى السبعين بعد خمس المائة "

3_ إثبات من حضر السماع لكن اعترتهم حالات أضرت بانتباههم وتركيزهم , ومن الحالات :

ـــ النوم : كما في ص 350 :" سمع هذا المجلد ثلاثة كان النوم يعتريهم أحيانا حالة السماع , وكانوا يتحدثون أحيانا ولهم فوات , وهم ......" .

ـــ الانشغال عن السماع بالكلام والتحادث : كما في ص 348 :" وسمع هذا المجلد طائفة كانوا يتحدثون في بعض المجالس حالة السماع، منهم ...." .

ـــ الانشغال عن السماع بالكتابة والنسخ : كما في ص 349 :" وثبت وحضر مجلس السماع طائفة كانوا ينسخون في بعض مجالس السماع وينامون ويتحدثون ولهم فوات أيضا، منهم ......" .

ومن الأمانة والورع الشديد عند المحدثين رحمهم الله أن كاتب الختم أو الطباق إذا فاتته بعض المجالس ذكر ذلك عنه , كما في ص 350 :" وسمع مثبت الأسماء سماعا صحيحا ....... فوات في هذا التسميع مرقوما في حواشي هذا المجلد ...... فليعلم ذلك "

وهذه الخاصية – أعني الأمانة العلمية – تنسحب على الطالب كما تنسحب على الشيخ كذلك , فقد كان العلم يذكر سماعاته لطلبته عن مشايخه، وإن حصل في هذا السماع فوت ذكر ذلك عنه تورعا , بل ربما اثبتوا الحالة التي يكون عليها الشيخ أثناء السماع , فقد ذكروا عن الحافظ المزي رحمه الله أنه كانت تأخذه سنة أثناء السماع , لكن إذا اخطأ القارئ تنبه الحافظ لذلك وأصلح الخطأ .

والمتحصل مما سبق أن العلماء – وبخاصة المحدثين منهم – كانوا يعظمون العلم فلا يمنحونه إلا لمن يستحقه , ولا يجيزون إلا من تأهل له , ولما كان الطلبة متفاوتين فقد سلكوا معهم طرقا شتى تدل على شدة انتباههم وفطنتهم على الحس التربوي لديهم، إذ النفس بطبعها مائلة إلى الخمول والدعة , وتحفيزها وإيقاظها يحتاج إلى دربة وحزم دائمين , وهو ما يستدعي النظر بعمق في ظاهرة التغيب في واقعنا التعليمي وطرق معالجتها. وأحسب أننا نلتمس بعضا من الإجابة على ذلك عند المحدثين والله أعلم .