في حوار صحفي مع الشيخ بدر الدين صاري * إمام خطيب بالعاصمة *
من موقع منار الجزائر
- السؤال الأول : كيف تفسرون الانتشار الكبير لأنصار السلفية في العالم العربي وخاصة في الجزائر ؟
الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على نبيّنا وقدوتنا محمّد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فبادئ ذي بدء، فإنّي أشكر جريدة " المسلمون " الفتيّة على هذه الاستضافة الكريمة على صفحاتها المشرقة. وتمنّيت أن تكون الأسئلة في القضايا الّتي تهمّ المسلمين عموما، لأنّ هذه المسائل ليست هي شغلَ النّاس وهمَّهم، بل هي شغل بعض المتخصّصين والمتابعين للسّاحة الدّعوية والإسلاميّة عموما، والنّاس من القراء في حاجة على أن يعالجوا مشكلاتهم الكثيرة الّتي يتخبطون فيها يوميّا، ومع ذلك فإنّه لا ضير أن أجيب عن هذه الأسئلة بما أراه صوابا إن شاء الله، والله أعلم بالصّواب.
ولا شكّ أنّني قد أخطئ، وقد يخالفني البعض فيما أقول، ولكن لا نحجِّر واسعا ما دام الإنسان يقصد ويتحرّى الحقّ ما استطاع إلى ذلك سبيلا، والنّقاش مفتوح لكل من ظهر له رأي آخر.
أوّلا : لا بدّ من ضبط المصطلحات وتفسير الألفاظ.
فالسَّلف في اللغة: ما مضى وتقدم، يُقال: سلَف الشيءُ سَلَفا : أَي مضى، والسَّلف: الجماعة المتقدِّمون، قال تعالى:((فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ))
والسَّلَفُ: من تقدَّمك من آبائك ومن هم فوقك في السنِّ والفضل، ولهذا سُمي الصدر الأَول من الصحابة والتابعين: السلف الصَّالح.
وفي اصطلاح العلماء :إِذا أُطْلِقَ السّلفُ عندَ العلماءِ فإِنَّما تدور كل تعريفاتهم حول الصّحابة، أَو الصّحابة والتّابعين، أَو الصّحابة والتّابعين وتابعيهم من القرون المفضّلة؛ من الأَئمَّةِ الأَعلامِ المشهودِ لهم بالإِمامةِ والفضلِ واتباعِ السنة والإِمامةِ فيها، واجتناب البدعةِ والحذر منها، وممن اتفقت الأُمّةُ على إِمامتهم وعظيم شأنهم في الدِّين، ولهذا سمي الصدرُ الأول بالسلَف الصالح.
إذن فهناك تحديدان:
- تحديد زمنيّ: وهم أهل القرون المفضّلة.
- وتحديد منهجيّ:وهو موافقة الكتاب والسنَّة في العقيدة والأَحكام والسلوك بفهم السَّلف، فكلّ من وافق الكتاب والسُّنَة فهو من أتباع السَّلف، وإن باعد بينه وبينهم المكان والزّمان، ومن خالفهم فليس منهم وإن عاش بين ظهرانيهم.
وإِمام السَّلف الصَّالح رسولُ اللّه صلّى الله عليه وسلّم.
قال الشّيخ محمّد الصّالح رمضان رحمه الله -وهو من تلاميذ الشيخ ابن باديس-:
«السّلفية هي: الرّجوع بالإسلام إلى ما كان عليه السلف الصالح في القرون الثلاثة الأولى: عصر النبوّة والصّحابة، وعصر التّابعين، وعصر أتباع التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، لما ثبت في الأثر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( خَيْرُ النّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ».
فيتضح لنا أن " السّلفية " ليست إلاّ مصطلحا من المصطلحات التي عُرفت في كتب العلماء، نسبةً إلى السّلف الصّالح، كما عُرف مصطلح أهل " السنة والجماعة "، ومصطلح " أهل الحديث والأثر "، وغيرها من المصطلحات والألقاب.
ولقد عُرِف هذا المصطلح منذ القديم، وكان يعبر عنه بمذهب السّلف، والذي ينسب إليه علماء الأمّة ونجوم الهدى فيها، أمثال: الإمام مالك، وأبي حنيفة، والشّافعي، وأحمد. وإنّنا لنجد العلماء عندما يذكرون مذهب السلف ينبّهون على أنّه مذهب هؤلاء الأئمّة، وخاصّة في مسائل الاعتقاد.
يقول الإمام ابن كثير في " تفسيره " عند تفسير آية الاستواء في قول الله تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ..} الآية، قال رحمه الله: « فللنّاس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ».
وفي حاشية العدويّ على شرح " كفاية الطّالب الربّاني على رسالة ابن أبي زيد القيروانيّ ":قال:« تتمة: قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ: مَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، فَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَكْفِيك عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ذَهَابُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَيْهِ ». ومثل هذا كثير في كتب أهل العلم حيث يعبرون عن مذهب الأئمة في الاعتقاد خصوصا بأنه مذهب السلف.
والسّلفية ليست دخيلةً على الجزائر، فعلماء هذه البلاد كثير منهم عرفوا بمناصرتهم لمذهب السلف في العقيدة والسلوك والفهم، وألّفوا في ذلك التصانيف، أمثال: الإمام ابن أبي زيد القيروانيّ، وغيره كثير ممّن وقفوا في وجه العقائد الزائغة والخرافات والأباطيل، وهذا إمام النهضة الإسلامية الحديثة في الجزائر يصفه تلاميذه وأصدقاؤه وأعداؤه أيضا بالسلفي ويسمّون دعوة " جمعيّة العلماء " بأنّها دعوة سلفية، ومن أراد الوقوف على هذه الحقيقة فعليه أن يطالع مقالات الشيخ الإبراهيمي في " البصائر " ومذكرات تلاميذ ابن باديس وكتبهم، بل إنّ دعوة وأصول "جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين" قائمةٌ على مذهب السّلف، كما جاء في قانونها الأساسي في فقرة من فقراته ما يلي:
- سلوك منهج السّلف الصالح " الصحابة والتابعين وأتباع التابعين " تطبيق صحيح لهدي الإسلام.
- فهوم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنة.
ومن رغب في التّأكّد من حقيقة الدعوة السلفية، فعليه أن يطّلع على أصول دعوة " جمعية العلماء ".
ولهذا فإنّي أكرّر أنّ السّلفية ليست دخيلة على الجزائر، وقد قرأت مؤخرا كتابا بعنوان " أقطاب السلفية في الجزائر " للشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله وهو من أقدم تلاميذ العلامة ابن باديس، تعرض المؤلف للتعريف بالسلفية وأسباب انتشارها في الجزائر، وقال رحمه الله بعد أن ذكر بعض العلماء والمصلحين :
« وهم نماذج وعينات من أئمة السلفية عندنا، ذكرتهم كمثال ودليل على أصالة السلفية وقِدَمها في بلادنا ..»
وعودة إلى سؤالكم: فانتشار السلفية بالمعنى الذي أشرت إليه وهو أنها حركة إصلاحية تدعو إلى العودة إلى الإسلام الصحيح -كما قال الشيخ أبو يعلى الزواوي الجزائري-، البعيد عن الخرافات والبدع ، وتُركز على سلامة المعتقد والدعوة إلى التوحيد وتوعية الناس بخطر الشرك وسلوك طريق الحكمة والرفق مع المخالف، ونبذ التعصب بأي شكل من الأشكال. فهذا الانتشار ما هو إلا أثر من آثار دعوة العلماء، الذين ورثنا عنهم هذه الدعوة ووجدنا آبائنا عليها، وهاهو العلامة شيخنا باي بالعالم رحمه الله الذي فقدناه منذ أيام، ترك لنا ثراتا كبيرا في خدمة المذهب المالكي وتأصيله بالدليل من الكتاب والسنة، أليس هذه هي الدعوة السلفية التي تدعو إلى التأصيل والاستدلال على الأحكام ؟
فانتشار السلفية بالجزائر ثمرة من ثمرات الجهود التي بذلها من قبلنا من العلماء أمثال ابن باديس والعقبي والتبسي وكانت هذه الدعوة معروفة مشهورة حتى نظم شاعر النهضة محمد العيد آل خليفة قصيدة بعنوان " نحن حزب مصلح سلفي " نشرت في " جريدة البصائر " و" الشهاب "، وللأسف أسقطت لفظة " سلفيّ " من الدّيوان المطبوع بعد الاستقلال.
وممّا زاد في انتشار هذه الدّعوة انفتاح العالم على وسائل الإعلام الّتي قرَّبت البعيد، وكثرةُ الكتب التي طبعت في نشر هذه الدعوة، وبروز علماء انشرت كتبهم ومصنفاتهم انتشار كبيرا ولقيت قبولا عند الشباب خاصة، والباحثين عامة، وهي من نعم الله على الناس لو أحسنوا استغلالها في الخير.
فالسلفية لو انتشرت بهذا المفهوم الذي فهمه السلف والأئمة من بعدهم كمالك وابن أبي زيد القيرواني وابن عبد البر وابن باديس وغيرهم لكان انتشارها محمودا، يدلّ على صحوة وعودة إلى النّقاء والصفاء. وأمّا إذا توجّهت الأنظار إلى السّلفية الّتي يدّعيها المُدَّعون، واتّخذت صورا معيّنة، وربّما آلت إلى كتل وجماعات متناحرة متدابرة، ومظاهر بعيدة عن الفهم الّذي عرفناه عن العلماء، فهذا يعتبر انحرافا، وخروجا عن الجادّة والتديّن الصحيح والاستقامة، وهذا لا يعنينا في البحث الآن لأن الباطل والفساد ليس لهما حدود ولا ضوابط.
وأؤكد أن العبرة ليست بالألقاب والأسماء، فالله لم يسمّنا سلفيّين ولا مالكيّين ولا غير ذلك، وإنّما سمّانا : " المسلمين " قال الله تعالى:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ }، فالعبرة بالاتّباع لهذا المنهج: وهو طريقة السلف في فهم الإسلام.
وما ذكرناه لا يعني أبدا التحجّر، ونبذ الاجتهاد، كما يتصوّر البعض، أو كما يقال " النصيّين "، بل السلفية بمعناها عند الأئمة الاجتهاد بالضوابط المعروفة في الأصول، وعدم التعصب والتحجر المذهبي.
الرئيسية 
الخميس 29 ديسمبر 2022 - 11:57
موضوع: كيف نفسر الانتشار الكبير لدعوة السلفية في الجزائر ؟ للشيخ بدر الدين صاري 
الثلاثاء 2 يونيو 2009 - 20:42
