الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:

فإنّ هذه المسألة وأشباهها من مسائل قصر الصّلاة قد كثرت أقوال العلماء فيها، والصّواب هو التّفصيل:

1- الحالة الأولى:

إن كان العمل الّذي يُرجى القيام به غير محدّد الزّمن، فهو لا يدري متى ينتهي منه ليعود إلى بلدته، فهذا يقصر من الصّلاة باتّفاق الفقهاء، لأنّه لم يعزم على الإقامة لا المؤبّدة

ولا المؤقّتة.

قال ابن المنذر في " الإشراف ":" أجمع أهل العلم أنّ للمسافر أن يقصر ما لم يُجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون ".

وقال ابن مفلح الحنبليّ رحمه الله في " المبدع " (2/115):" وإن أقام لقضاء حاجة أو حُبِس ظُلما، أو لم ينو الإقامة قصر أبدا ".

وقال ابن قدامة في " عمدة الفقه " (ص24) :" وإن لم يجمع على ذلك قصر أبدا "، وكذا قال في "المغني" (2/292).

وبمثل ذلك قال الشّيرازي الشّافعيّ في " المهذّب " (1/103)، والكاساني الحنفيّ في " بدائع الصّنائع "(1/97)، وأبو الحسن المالكيّ في " كفاية الطّالب الربّاني "

(1/462).

2- الحالة الثّانية:

أمّا لو عزم على الإقامة مؤقّتا، ولم يكن متردّدا، إذ هو يعلم متى ينقضي عمله أو دراسته، كما هو الشّأن في المذكور في السّؤال، فهذا يُتمّ صلاته، ولا يقصر، وذلك لما يلي:

أوّلا: أنّه ليس بمسافر عُرفا.

فما يتعارف النّاس عليه: أنّ من اتّخذ بلدا موطنا للعمل فيه، أو لطلب العلم فيه فإنّه مقيم به، ولذلك كان السّلف ينتقلون من بلد إلى آخر لطلب العلم، فيقال لأحدهم:" المكّي "، و"

المدني " و" الشّاميّ "، وكانوا يُتمّون الصّلاة، بل ربّما صار أحدهم إماما للبلدة التي قدم إليها، مع أنّه عازم على الرّجوع إلى بلده الأصليّ.

ثانيا: أنّه ليس بمسافر لغة، فإنّه لا يصدق عليه وصف المسافر، بل يصدق عليه وصف المقيم إقامة مؤقّتة، ولها حكم الإقامة المؤبّدة،

فقد قال تعالى:{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُم } [النّحل: من الآية80]، فقسّم النّاس إلى مقيم وظاعن لا ثالث لهما.

ثالثا: أنّه لا تجري عليه أحكام المسافر شرعا، فلا يدخل من اتّخذ بلدا وطنا له في ابن السّبيل الّذي تجب له الزّكاة، ولو وقف أحد النّاس وقفا للمسافرين لم يدخل فيهم، وليس له

أن يمسح على الخفّين أكثر من ثلاث، وليس له أن يفطر شيئا من رمضان، ولا تسقط عنه الجمعة. فكذلك قصر الصّلاة لا يحلّ له إن نوى البقاء للعيش مؤقّتا عاملا أو طالب

علم.

وهذا ما جرى عليه عمل السّلف، فقد كانوا ينتقلون إلى ولايات غير ولايتهم بنيّة الإقامة فيها لطلب العلم، فكانوا يُتمّون.

تنبيه: قد ثبت عن الصّحابة والتّابعين أنّ المسافر يقصر ولو ظلّ على حاله سنين، ومن جملة ذلك:

- ما رواه الإمام مالك أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: ( أُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً ).

- عن أنس رضي الله عنه أنّه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصّلاة. [رواه الطّبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزّوائد"(2/158)].

- وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر رضي الله عنه: إنّي آتي المدينة فأقيم بها السّبعة أشهر والثّمانية طالبا حاجة ؟ فقال: صلّ ركعتين. [أخرجه عبد الرزّاق في " المصنّف "

(4364)].

- وقال أبو إسحاق السّبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه سنتين نصلّي ركعتين. [ذكره ابن عبد البرّ في " التّمهيد "].

- وروى البيهقيّ (3/152) " أنّ ابن عمر رضي الله عنه أقام بأذربيجان يصلّي ركعتين ركعتين، وكان الثّلج حال بينهم وبين القفول"، وكان يقول:" إذا أزمعت إقامة فأتمّ ".

[صحّحه الحافظ في " الدّراية " (ص129)، والشّيخ الألباني في " الإرواء " (3/28)].

- وعن نصر بن عمران قال: قلت لابن عبّاس رضي الله عنه:" إنّا نطيل المقام بالغزو بخراسان، فكيف ترى ؟ قال: ( صلّ ركعتين وإن أقمت عشر سنين ).

ذكره ابن عبد البرّ أيضا.

فهذه الآثار لا ترد على ما ذكرناه، لأنّ الصّحابة والتّابعين ما كانوا عزموا على الإقامة، وكان يمنعهم من العود إلى بلادهم موانع: إمّا حاجة لا يُدرَى متى يتمّ

قضاؤها ؟ أو ثلوج تسدّ الطّريق، ونحو ذلك.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله في " التّمهيد " (11/184):

" محمل هذه الأحاديث عندنا على من لا نيّة له في الإقامة لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدد المتقاربة، وإنّما ذلك مثل أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا، وإذا كان

هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة، قيل لأحمد بن حنبل: فإذا قال: أخرج اليوم، أخرج غدا يقصر ؟ قال: هذا شيء آخر، هذا لم يعزم ".

فمفهوم كلامهم رحمهم الله أنّ من عزم على الإقامة – ولو مؤقّتا – فإنّه يُتمّ صلاته.

والله أعلم.