أختي ..!!
حين أكتب عن أختي تضطرب مشاعري ويهتز كياني وتنبع من قلبي أنهار الحنان فتسقي جداولها الرقيقة حدائق الأحزان في صدري
فتحيل صحرائها القاحلة مروجا وأنهارا وتزين صفحة قلبها العابس برياض من أزهار جبلية .. ترى الفراشات خلالها تتراقص في سعادة منقطعة النظير فتمتلئ النفس من وحيها بهجة وسرورا
أختي ..!!
أختي .. نرجس جميل .. ووردة فوّاحة .. وفلّ متلألئ .. هي شرقية كالاقحوان.. برية كالياسمين .. تلاعب هبات النسيم خصلات شعرها الذهبي فتتمايل يمينا وشمالا وكأنها حسناء متعجرفة لم يزدها الحسن إلا ذهولا وغرورا .. لكنها جميلة .. جمال المرآة الصافية التي بين جوانحها
أختي ..!!
أختي .. هي التاريخ والذكرى هي الماضي والحاضر هي الأصالة والحضارة هي الحلم والأمل ... أختي .. هي أختي .. لم تتغير ولم تؤثر فيها السنون لازلت أذكر كيف كنّا نجتمع ونحن صغار حول "الكانون" القديم نتجاذب أطراف الحديث وتقص علينا "أختي" قصصا من تراثنا القديم .. عن سيف بن ذي يزن عن حنبعل عن الفراعنة وعن أبطال اليونان.. قصص سحرية وذكريات جميلة يختصر فيها الزمن ويرفع عني فيها الحجاب فأراني وإخوتي صغارا لم تكدر صفونا الأيام ولم تغيّرنا الليالي ... أراني وإخوتي حول أختي في كوخنا القديم كانت الأمطار حينها تهطل بشدة وكأنها سيول جارفة تأبى إلا أن تتجسس علينا من بين شقوق سقفنا المهترئ دون اسئذان كانت ليالي طويلة من فصل الشتاء القارص ..
كانت أمي يومها في همّ شديد تشغلنا عن البرد والجوع بقدر مكسور تغلي فيه الماء بينما كانت أختي تضع المواعين والصحاف على الأرض في مواطن تقاطر الأمطار لتحمي الأفرشة من البلل فلا نصاب بالصقيع .. كلما ذكرتها ذكرت الشاعرة الثائرة والأديبة الفارهة وكأنها وبإلقائها لبعض من قصائدها الجميلة في ذلك المؤتمر الصغير تحاول زرع الأصالة في قلوبنا وصقل العربية في كياننا رغم أننا لم نكن نفهم شيئا مما تقول بل سرعان ما كنا ندخل في حالة هستيرية من الضحك لا تجد أختي معها الا رمينا ببعض الوسائد المترامية أمامها على ساحة المعركة ثم تجري وراءنا فتحدث بجريها من الضجيج ما يجعل أمي تصرخ في وجهها بعنف "اطفئي السراج" كانت أيام جميلة لم نشعر إلا وجيش الأكدار يهجم عليها في غفلة منا ... كبرنا بسرعة دخلت الجامعة تخرجت وبدأت العمل فاذا بمجتمع آخر وأناس آخرين وجوه مختلفة وأفكار متناقضة مؤامرات ودسائس تكتلات ومواجهات حرب حقيقية سلاحها المكر والخداع وضحيتها الفضيلة والشرف .. لم يعد للقيم مكان في هذا الزمان بل كر وفر وطعن في القلوب والأظهر .. أذكر يوم دخلت المطار لأول مرة في حياتي لم أتمالك يومها أن ذرفت دمعة ساخنة من عيني حاولت إخفاءها بشدة ألا ان بريقها كان من الشدة بأن رآه المسافرون فانزويت حياء فقد ذكرتني وأنا لا أكاد أملك دينارا وأبي رحمه الله يصرخ من ألم الفقر ولكنه صراخ صامت يدوي في هدوء سادر وكأنّه صوت الموت فيا له من صوت أبلغ من جميع الأصوات كان رجلا فاضلا قويا الا انه انتقل الى رحمة الله وتركنا ونحن صغارا لا نعقل من الدنيا الا ... أختي ..
أختي ..!!
أختي .. صامدة كجبل شامخ تتحطم أمواج المصائب عند قدميها
لم أذكر أنها عنفتني يوما بل كانت ريحا مرسلة صوتها أقرب ما يكون الى خرير مياه متدفقة من العجلة المائية لطاحونة قريتنا الجميلة يأسرك حديثها وتسحرك كلماتها كم كنت أشعر بالسعادة وأنا انظر إليها فهي قطعت من أبي فحتى جدتي المفجوعة في ابنها لا تملك ألا أن تناديها باسمه
وكأنها تجد في فعلتها تلك بعض السلوان ... القصة طويلة ولو شئت لاسترسلت وحسبكم ما عرفتم وليس ما خفي بالذي يروى ولكنها العشرة أسطر التي اشترطت في البيان فلنعذر بالنسيان والسلام
الرئيسية 
الخميس 29 ديسمبر 2022 - 11:57
موضوع: حين أكتب عن أختي .. 
السبت 22 مايو 2010 - 16:50
