تَرْجَمَةُ الشَّيخِ الطَّيِبِ العُقْبِي فِي سُطُورٍ

بقلم: أبي عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري

فإنّ الشّيخ العقبي عَلَمٌ من أعلام الجزائر، وواحد من أكبر علمائها

 وأشهر دعاتها، ورمز من رموز الدّعوة السّلفية فيها، وذلك بشهادة

أنصاره ومحبّيه وباعتراف أعدائه ومخالفيه.

ومع كونه كذلك فإنّنا وجدناه قد أُخمِد ذِكرُه، ولم يجد من يهتمّ بآثاره

فيجمعُها، وبأفكاره فيجلِّيها وينشرُها، وهذا المقال ما هو إلاّ محاولةٌ لجمعِ

مَا تفرّق من أخباره، وتذكيرٌ ببعض فضله وشمائله.

1-هو الطّيب بن محمّد بن إبراهيم، من قبيلة« أولاد عبد الرحمن»

الأوراسية.

  ولِد في شهر شوّال سنة 1307هـ الموافق لـ(ماي/جوان) 1890م في

ضواحي بلدة «سيدي عقبة».

2-هاجرت أسرته كلّها إلى المدينة النبويّة في سنة 1312 هـ/1895م،

أثناء حملات الهجرة الّتي سببها محاولة فرض التّجنيد الإجباري على

الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسيّ.

3-وفي المدينة حفِظ القرآن الكريم ودرس العلوم الشّرعية، ورغم أنّ

والده تُوُفِّي وهو في سنّ الثّالثة عشر فإنّه لم ينقطع عن الطّلب واستمرّ

فيه.

4-عند قيام ثورة الشّريف حسين، نفاه العثمانيّون إلى شبه الجزيرة

التركيّة، بحجّة انتمائه إلى القوميّين العرب، وقيل لأنّه رفض الانخراط

في صفوف العثمانيّين.

5-عند انتهاء الحرب العالميّة الأولى عاد إلى مكّة، حيث أكرمه الأمير

الحسين، وأسند إليه رئاسةَ تحرير جريدة « القبلة » وكذا إدارة «

المطبعة الأميرية » في مكّة خلَفا للشّيخ محبّ الدّين الخطيب.

6-في مارس 1920م (1330 هـ) رجع العقبي إلى الجزائر، وذلك

لأسباب: منها الاعتداء الّذي وقع على أملاك عائلته في مسقط رأسه.

7-وانتصب للدّعوة إلى الله تعالى في بسكرة ، فشرع في إلقاء الدّروس

 العلميّة والوعظيّة لطلبة العلم، وللعامّة وذلك في مسجد « بكار » وهو

 المسجد الوحيد الذي بقي محافظا على مكانته دون أن تدخله الطّرقية

 التيجانية. وكان موضوع درسه العام "تفسير المنار".

8-ولمّا انتشر نشاطه، وبانت بعض آثاره، سارعت السّلطة الفرنسيّة إلى

اعتقاله لتخوُّفها منه، فلبث في السّجن قرابة شهر، ثمّ أُفرج عنه وخُلِّي

سبيله، وعاد لنشاطه، بل وسّعه.

9-أسّس بالاشتراك مع إخوانه ببسكرة جريدة «صدى الصحراء» في

ديسمبر 1925م، ثمّ انفرد بتأسيس جريدة «الإصلاح» وذلك في 8 سبتمبر

 1927م، وقد صدر من هذه الأخيرة أربعة عشر عددا ثمّ أوقفتها السّلطة

 الفرنسيّة، وذلك في سنة 1928م. كما كان ينشر في جريدة "المنتقد" ثمّ

"الشّهاب".

10-لمّا تأسّست جمعيّة العلماء، انتُخِب ضمن أعضاء مجلسها الإداريّ،

 وكان ممثّلَها في منطقة الوسط.

وتولّى رئاسة تحرير جرائدها "السُنّة" فـ"الشّريعة" فـ"الصّراط"، ثمّ

 جريدة "البصائر" إلى العدد 83.

11-وكان مشرفا على مدرسة "الشّبيبة الإسلاميّة" بالعاصمة، ورئيسا

للجمعية الخيرية الإسلامية، ولازم نادي الترقّي يُدَرِّس فيه إلى أن أقعده

 المرض في بيته في حي « بولوغين » بالعاصمة.

12-محنة الشيخ العقبي:

وبعد مدّة من انطلاقه في العمل في العاصمة، ظهرت نتائج دعوته ونشاطه:

حيث كثرت المدارس العربيّة الحرّة في مدن عمالة الجزائر، وتزايد عدد

 الملازمين لدروس الشّيخ، وصار تمسّك النّاس بالدّين في العاصمة أمرا

ظاهرا، وهجر النّاس شُرْبَ الخمر والميسر ومواطنهما، ورجع أكثرهم

إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، ولم تصمد أمامه دعوة الطّرقية حيث

 عرفت تراجعا كبيرا.

فاتّخذت الإدارة الفرنسيّة عدّة وسائل لتكبّل الشّيخ وتحدّ من نشاطه، منها

سبيل "الإغراء"، فعرض عليه منصب الإفتاء فرفض، ومنها إصدار

 «ميشال» قرار منع الشّيخ من التّدريس سنة 1933م (بحجّة أنّه ينشر

 الوهّابية)، ومنها إصدار منشور غلق المساجد في وجه غير

 الرّسميين، وكانت آخر طريقة مؤامرة مقتل المفتي محمود بن دالي (كحّول).

كحُّول المفتي لم يكن طرقيّا .. لكنّه رجلٌ باعَ دينه وأخلص ولاءه لأعداء

 الإسلام، حيث أعلن معارضته لحركة المؤتمر الإسلامي (1936)،

 ولعلماء الجمعيّة، وكتب في ذلك إلى السّلطات الفرنسيّة. ولم تتردّد فرنسا

 في التّضحية به، فدسّت له من قتله.

قام بالمهمّة رجل معروف بالإجرام يقال له "عكاشة" فنفّذ هذا جريمته

يوم 2أوت 1936م في الوقت الّذي كان فيه العقبي وسائر ممثلي المؤتمر

 الإسلامي مجتمعين بالملعب البلدي [20أوت حاليا] يشرحون للأمّة

 المطالب التي تقدّموا بها إلى الحكومة الفرنسيّة، فزعم الجاني أنّ العقبي

 هو من أغراه وأعطاه مبلغ 30000 فرنكا مقابل اغتيال المفتي، فاعتُقِل

 العقبي ورفيق له، وزُجَّ بهما في السّجن.

قضى الشيخ في السجن سبعة أيّام، ثم تراجع عكاشة عن تصريحاته بعد

 ذلك، وأنكر أن تكون له علاقة بالعقبيّ وصاحبه، فأُفْرِج عنهما بصفة

مؤقّتة، ووُضِعا تحت المراقبة، مع إمكانية التوقيف عند الضّرورة، ثمّ لم

يُفصل في القضيّة إلاّ بعد ثلاث سنوات وذلك بتاريخ 28 جوان 1939.

13-وفي 23سبتمبر1938، اجتمع رجال الجمعيّة لدراسة موضوع إرسال

 برقيّة التأييد لفرنسا ضدّ ألمانيا، فوقع خلاف في شأنها إذ كان العقبيّ مع

 إرسال برقية التأييد، لأنّ هذه البرقية ستجعل فرنسا لا تتعرّض لنشاط

الجمعيّة، وتُخفّف من تضييقها عليها على الأقلّ، وذلك باعتبار مواصلة

الدّعوة أولى الأولويات، بينما خَشِيَ ابنُ باديس من استغلال فرنسا للبرقيّة

 لتجنيد الجزائريّين في حربها ضدّ ألمانيا، ولما عُرض الأمر على

التّصويت، فكانت النتيجة 12صوتا موافقا لرأي ابن باديس، مقابل 4

أصوات فقط موافقة لرأي العقبي.

لأجل ذلك فقد توقّفت جلّ نشاطات الجمعيّة بعد ذلك توقّفا اضطراريّا.

ولكي يتمكّن العقبيّ من مواصلة العمل، انسحب من المجلس الإداريّ

للجمعيّة، واحتفظ بعضويته فيها، فأعاد إصدار جريدته «الإصلاح» في

28 ديسمبر 1939 والّتي استمرّت إلى العدد 73 الصادر في 3 مارس

1948.

 والذي ينبغي الوقوف عنده هنا هو روح الأخوّة والتّعاون الّتي بقيت

قائمة بين الشّيخ العقبي وبقيّة رجال الجمعيّة رُغم انسحابه من الهيئة

الإداريّة للجمعيّة:

فقد هنّأ الإبراهيميّ العقبيَّ لمّا أصدر جريدة "الإصلاح" ونشر ذلك في

11جانفي 1940م.

وكذلك اشترك العقبيّ والإبراهيميّ في تنظيم "الهيئة العليا لإعانة

فلسطين"، الّتي أعلن عنها في 21جوان 1948م، فترأّسها الشّيخ

الإبراهيميّ، وكان الشّيخ العقبيّ أمينَ مالِها، وقد شهد له الإبراهيميّ بأنّه

الرّوح المدبّرة لتلك الهيئة، كما شارك إخوانه رجال الجمعية في أعمال

أخرى منها مواصلة المطالبة بتحرير المساجد وفتحها للعلماء الأحرار.

14-ومن تلاميذه: فرحات بن الدرّاجي (1909-1951)، عمر بن البسكري (

1889-1968) ، محمد العيد آل خليفة (1904-1979) ، أبو بكر جابر

الجزائري حفظه الله تعالى.

15-من ثناء أهل العلم عليه:

1-قال ابن باديس (الشهاب 138):« من ذا الذي لا يتمثّل في ذهنه العلم

 الصّحيح والعقد الطّاهر، والصّراحة في الحقّ، والصّرامة في الدّين،

 والتحقّق في السنّة، والشدّة على البدعة، والطِّيبة في العشرة، والصّدق

في الصّحبة إذا ذُكِر الأستاذ العقبيّ ؟!».

وقال في موضع آخر (5/435):» حيّاك الله وأيّدك يا سيف السنّة وعَلَمَ

الموحّدين، وجازاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن

إخوانك السلفيين المصلحين «.

2-وقال الشيخ الإبراهيمي[(1/167)]:

« هو من أكبر الممثلين لهديِها – أي الجمعية – وسيرتها والقائمين

 بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتًا في عالم الإصلاح الدّيني، وأعلاهم

صوتا في الدّعوة إليه…وإنّما خُلِق قوّالا للحقّ، أمّارا بالمعروف، نهّاءً عن

المنكر، وقّافا عند حدود دينه، وإنّ شدّته في الحقّ لا تعدو بيانَ الحقّ،

 وعدم المداراة فيه، وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله ».

3- وقال أحمد توفيق المدني:

« كان خطيبا مِصْقعا من خطباء الجماهير، عاليَ الصّوت سريع الكلام،

حادّ العبارة، يطلق القولَ على عواهنه، كجواد جامح دون ترتيب أو

مقدّمة، أو تبويب أو خاتمة، وموضوعه المفضل هو الدّين الصّافي النقيّ،

 ومحاربة الطّرقية، ونسف خرافاتها، والدّعوة السّافرة لمحاربتها

ومحقِها».

4- وقال عنه الشّيخ أبو يعلى الزّواوي :« العلاّمة السّلفي الصّالح داعية

 الإصلاح الديني ».

5- وقال عنه الشيخ محمد تقي الدين الهلالي:« الأستاذ السّلفي الدّاعية

النّبيل الشّيخ الطيب العقبي».

6-قال أبو بكر الجزائري في شريط« هم عظماء الرجال»: « دروس

الشّيخ الطّيب العقبي ما عَرَفَت الدّنيا نظيرَها، ولا اكتحلت عينٌ في

 الوجود بعالِمٍ كالعقبي ».

16-وفاته

وقد أوصى الشّيخ قبل وفاته وصيّةً اشتدّ في الإلحاح عليها، فأوصى بأن

 تُشَيَّع جنازتُه في مقبرة « ميرامار» بالرّايس حميدو، تشييعا سُنِّيا دون

ذكرٍ جَهريّ، ولا قراءة البُردة، ولا حتّى قراءة القرآن حال التّجهيز، أو

حين الدّفن، وأن لا يُؤْذَن لأيّ واحد من الحاضرين أن يقوم بتأبينه قبل

 الدّفن أو بعده. وتوفّي الشّيخ الطّيب العقبي رحمه الله في 21مايو 1961م،

 وشُيِّعت جنازتُه تشييعاً سنّيا فكان له ما أراد.

 هذا آخر ما أردت تسطيره وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا

 أنت وأستغفرك وأتوب إليك.