قال حفظه الله:
" الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
فإنّه قد أوقفني مشهد من المشاهد بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم العام الّذي يسّر الله لي فيه حجّ بيته الحرام، ذلكم المشهد يدلّ على خير في نفوس عامّة المسلمين، وحرص على الأجر الكريم، والفضل العميم ..
تدرك ذلك جليّا إ ذا نظرت إليهم وهم يتنافسون على الصّلاة في ( الرّوضـة )، حتّى إنّ بعضهم ليتساقط أمامك تساقطهم في مقامات الحجّ كمنى والحجر الأسود !!
كلّ ذلك وهم يستحضرون قول الحبيب صلى الله عليه وسلّم: (( مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ )) [متّفق عليه من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ.رضي الله عنه].
فقلت في نفسي: ما أجمل أن ترى هذا الحرص الكبير، والطّمع فيما في يدي العليّ القدير عزّ وجلّ !
ولكن .. لماذا تفطّنوا إلى روضة من رياض الجنّة، قطعوا من أجلها البحار، وتركوا من أجلها الدّيار، وبذلوا لها الدّرهم والدّينار، ولم يتفطّنوا إلى روضة من رياض الجنّة في مساجد أحياءهم، وأقرب شيء إلى ديارهم ؟!
إنّني أقصد ما رواه التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا )) قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: (( حِـلَـقُ الذِّكْـرِ ))...
ومن محاسن ما جاء في السنّة الصّحيحة، أنّه ورد -زيادةً على هذا الحديث- تشبيه طلب العلم بالحجّ، من ذلك:
* ما رواه الطّبراني في " الكبير " بإسناد لا بأس به عَنْ أَبِي أُمَامَة رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ، تَامًّا حَجَّتُهُ )).
[صحّحه الشّيخ الألباني في " صحيح التّرغيب والتّرهيب "(رقم 86)]
* ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ:
مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟
قَالُوا: يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ.
فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي ؟
فَيَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ.
فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟
يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا.
يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي ؟
قَالوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ.
يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.
يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً.
قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟
يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ.
يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.
يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً.
فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ.
قَالَ: فيَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ، لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ.
قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ، لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ )).
فقارن هذا الحديث الّذي ثبت في فضل مجالس الذّكر وحِلَقِ الذّكْر، قارنه بالحديث المشهور في فضائل الحجّ يوم عرفة، حيث روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النَار من يوم عرفة..وإنّه ليدنو من عباده يباهي بهم الملائكة فيقول: " انظروا إلى عبادي شُعثاً غُبراً، ما أراد هؤلاء ؟ " فيقول الملائكة: إنّهم يستغفرونك ويدعونك. فيقول: " ألا فاشهدوا أنّي قد غفرت لهم ")..
فهذا وذاك يدلّ دلالة واضحة على أنّ للعلم منزلته العظيمة عند الله تعالى، ولكنّ أكثر النّاس عن طلبه وتحصيله غافلون " اهـ.

ما شاء الله زاد الله شيخنا توفيقا وفهما ونستغفر الله من التقصير