السلام عليكم و رحمة الله، و بعدُ
فقد قرأتُ تعليقات و تعقيبات الأعضاء الأفاضل على اللمسة البيانية المذكورة أعلاه،و لي تعقيب على الرد الأول الذي كان من قبل الشيخ أبي جابر عبد الحليم حفظه الله، فقد رأيتُني لم أُبن كما ينبغي، و لم أشرح المقصود من اللمسة البيانية شرحا كافيا كما كانت في ذهني، بل اختصرتها اختصارا، مما يستوجب مني مزيد توضيح و تبيين. و أرجو الصبر على قراءة الشرح:
أولا : المقصود من جملة "لمسة بيانية"؟ لَمَسَ لغة تكون لما هو حسي: "لَمَسَ باليد" أي من المسّ..و لا يمكن أن يكون اللمس للبيان، إلا إذا قصدنا به معنى آخر خفيا، فكأننا استعرنا كلمة اللمس و جعلناها للبيان، نريد بذلك أن: نلمَسَ و نحسّ و نستشفَ و نلحظَ و نستنبطَ معنىً عن طريق هذا البيان الذي نحن بصدده.. و الدكتور فاضل صالح السامرائي كان بصدد استخراج و استنباط روح المعاني في كتاب الله عن طريق نظمه المعجز و بلاغته، و يكون ذلك في جو الآيات و السياق الذي وردت فيه، والنظر في نسق السورة كلها، و لا يكون مطلقا بأخذ آية هكذا بمفردها و استخراج اللمسة البيانية فيها.
فأنتَ عندما ترى تلك اللمسات و تتبيّنَ الفروق الدلالية بين كلمة و أخرى، و بين حرف و حرف - و إن كانت الكلمات مترادفة و كذا الأحرف، إلا أنّ لكلمة و لكل حرف دلالة خاصة.بل إنّ الكلمة الواحدة تحتمل معاني كثيرة- قلتُ عندما ترى ذلك تزداد يقينا بأنّ هذا القرآن معجز من جميع الوجوه.كيف لا؟ و قد أُنزل بلسان العرب و لغتهم،فهو يجري بجريان لسانهم، فصعقوا أمام إعجازه و بهتوا و أعجبوا بحلاوته و لذّته و هو يُتلى عليهم،إنه "تنزيل العزيز الحميد".فهيهات أن يأتوا بمثله.
فالذي أراد الدكتور قوله أنّ "اللغة العربية تسع معاني كثيرة، و دقة في التعبير لا تسعها لغات أخرى". مثلا :جاء و أتى –البعث و الإرسال- يضّرّعون و يتضرّعون..و أنّ هذه المعاني التي تسعها و تحتملها اللغة العربية واردة في القرآن و نظمه !!
ثانيا: بخصوص الآيتَين:
• "له ما في السموات و ما في الأرض. و إنّ الله لهو الغنيّ الحميد" الحج
• "لله ما في السموات و الأرض. إنّ الله هو الغني الحميد" لقمان
قال الشيخ توميات بصدد ما ذكرتُه في شرحي السابق لدلالة الحرف "واو" : أنّ آية الحج أبلغ و أوكد من آية لقمان غاية في الصحة ..و يدل على ذلك دخول لام التوكيد، إضافة إلى إنّ و ضمير الفصل..إلا أنّ اعتبار اللام في آية لقمان تفيد الملك-بكسر الميم- و آية الحج تفيد الملك-بضم الميم، قولٌ يحتاج إلى دليل أو أمارة. فلقائل أن يقول: كيف تكون اللام مختلفة المعنى و التركيب واحد "له" و "لله" ؟ و أنّ سبب التوكيد الذي نلحظه في آية الحج أن سورة الحج مبنية من بدايتها على التوكيد و إلى غاية الآية المشار إليها...ثم قال: فالظاهر أنّ "الواو" إنما جاءت لعطف كل ذلك على ما سبق ..و أنها لزيادة التوكيد من أجل ما سبقها من توكيد.. ثم قال: "فكلام السامرائي في غاية الروعة لو ذكر فقط وجه التفرقة بين اللامَين"
فالجواب كما يلي:
أولا : أنا لم أقصد ببيان ذاك الشرح و الفرق حرفَ "اللام"، و إنما حرفَ "الواو" و اللمسة البيانية التي أَضْفَتْهَا، و المعنى الذي أطلقته في جو الآية من خلال النظر في جو السورة كلها و موضوعها. و أنّ بداية السورة كان عن الخلق:" خلق السماوات بغير عمد ترونها". "هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه". "و لو أنما في الأرض من شجرة أقلام.."الآية و أنها تعني الخلق. "و يعلم ما في الأرحام" يعني أيضا ماذا خلق الله.. و أنّ هذا الخَلق مِلك لله بما أنه خالقه.
أما سورة الحج فقد كان بدء موضوعها عن المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة، فكانت الآيات تصف قبح فعلهم: "و من الناس من يجادل في الله بغير علم.." و "من الناس من يعبد الله على حرف"و "يدعو من دون الله ما لا يضره و لا ينفعه"." يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه"..
فلا فرق بين اللامين. لأنّ اللام إذا كانت مكسورة تفيد إما: المِلك كقوله تعالى"له ما في السماوت و الأرض"، أو التعليل "ليعلموا أن الله .." و الفرق بينهما في الآيتين، أنها وردت بذكر اسم الجلالة في آية لقمان، و بضمير متصل عائد على اسم الجلالة في آية الحج..و لأنّ اسم الله ورد في الآية قبلها "إن الله لطيف خبير" فقد أمكَن ما يتعلق به سبحانه بضمير عائد إليه، أما في آية لقمان، قد يتوهم متوهم لو أوتي بضمير "له" عوض لفظة "لله" أن الضمير قد يعود على غيره.كيف لا؟ و الآية التي قبلها تحدثت عن المشركين"بل أكثرهم لا يعلمون" و لهذا وجب ذكر اللام مع اسم الجلالة دفعا للتوهم.
ثانيا: سياق الآيات و موضوع السورتَين هو الذي حدّد الفروق أو اللمسات البيانية للآيتين..و أما بخصوص قولكم بأنها الآيات من سورة الحج قبلها مبنية على التوكيد و أنها "الواو" لزيادة التوكيد..فلا خلاف فيه ..و إن كانت الآيات في سورة لقمان فيها الكثير من التوكيد "إن الله هو الغني الحميد." إن الله عزيز حكيم". "و أن الله بما تعملون خبير"." ذلك بأنّ الله" "إن الله يفصل بينهم"."إن الله على كل شيء شهيد"."إن الله يفعل ما يشاء"."إن الله يدخل الذين آمنوا" و قبلها "إن الله عليم بذات الصدور".و "ألم تروا أنّ الله"فإن الله غني حميد"."ألم تر أن الله يولج الليل..".. و سورة لقمان -34 آية-أقصر من سورة الحج-78 آية- و فيها من التوكيد الشيء الكثير.
ثالثا: لماذا خلُصَ الدكتور إلى معنى "المُلك" في آية الحج و "المِلك" في آية لقمان؟ قال: أنّ معاني "الواو" التي أطلقتها في سياق آية الحج مما تحتمله اللغة !! لأنّ مضمون سورة الحج و جوها و نسقها و التوكيد الذي ذكرتموه قبلُ يشير إلى ذلك، أي إلى أنه المَلِك. أما في سورة لقمان فترى جو "المِلْك". ثم هناك لفتة:
- مََِلِكَ الشيءَ ، يملِكُ، مِلْكا فهو مالك
- مَلَكَ، يملُكُه مُلْكاً فهو مَلِكٌ
- كل مَلك مالك و ليس كل مالك مَلِك
و أعطى الدكتور مثالا على الفرق: شخص يملِكُ قطعة أرض، فهو مالكها.و لكن قد يأتيه أمر من السلطان أو ***باستغلال تلك القطعة و أن ينصرف عنها و تعوضه.فهو ليس ملكا على الحقيقة.بل من تحكّم في أرضه و سيّرها بمشيئته هو المَلك. فالمَلِكُ يسيطر و يتحكم و يملُك ما تحته.
و لكي يدفع الله توهم أنّه قد يملِك –في آية لقمان -فهو مالك و ليس ملِكا على الحقيقة.أتى بمعنى "المَلِك" و "المُلك" في آية الحج من خلال التوكيد و كذا حرف "الواو".
و أنتَ إذ تقرأ تفسير "السعدي" رحمه الله، تلاحظ بجلاء معنى "المُلك" في آية الحج و معنى "المِلْك" في آية لقمان.فهو رحمه الله يشرح "و إن الله لهو الغني الحميد" شرحا فيه من المعاني ما لا تجده في شرحه للآية "إن الله غني حميد"، و كيف أنه " غني بذاته الذي له الغنى المطلق التام من جميع الوجوه، و من غناه أنه.. و أنه"...تفسير السعدي لآية الحج.. و أنّهم كلهم عبيد مماليك ، مدبرون مسخرون، ليس لهم من الملك شيء و أنه واسع الغنى" تفسير السعدي لآية لقمان.
ثم لزيادة التوكيد و الإكثار و المبالغة في هذا المعنى و أن الله مَلِك حقا، ليس كملوك الدنيا، قال في موضع آخر من كتابه: "قل اللهم مالِكِ المُلْك".فهو مالِكُ المُلْك. فلا ملك على الحقيقة إلا هو...فسبحان من وصف نفسه بصفات الكمال و الجلال و الجمال و العظمة.
• ثم هناك أمر في حرف الواو: و أنها تفيد الإكثار. بل كونها عطفا على ما قبلها يفيد الإكثار و المبالغة و التوكيد. ألستَ إذا قلتَ " لقد أعطانئ فلان كذا و كذا و كذا و كذا..إنه غني". بخلاف ما إذا قلتَ "لقد أعطاني فلان كذا و كذا" .فالجمل المعطوفة تفيد المبالغة و الإكثار. هذا من جهة. و من جهة أخرى قولنا:" فلان عنده 100 دار و بستان.إنه غني". فهل هذه الجملة تعدل جملةَ "فلان عنده 100 دار و بستان و إنه غني"؟ لا و الله.فواو تفيد : و إن لم يكن له كذا و كذا، فهو غني حقا. فحرف الواو هذه أرى فيها هذا المعنى الذي أراده الدكتور بشرحه..
• خلاصة القول: ذكر الدكتور وجهَ التفرقة بين الآيتين بصفة عامة -و ليس بين اللامين- و فائدة "الواو" و أنّ اللغة تحتمل ذاك المعنى.. فهذا وجه رآه الدكتور في شرح الآيَتَيْن. أما ما ذكره الشيخ توميات و الشيخ أبو يزيد-حفظهما الله- فلا ينازع فيه أحد، و لم يكن بيتَ القصيد إعراب الآية كذا و كذا، لتفيد لزوم العبودية باقتضاء الربوبية، فهذا معلوم بل و تؤكّده تلك اللمسات التي جلاها الدكتور.إذ مقتضى كون الخالق مَلِكاً و أنه مالك كل شيء، يستلزم إفراده بالعبودية..
• تنبيه: لستَ يا شيخ ممّن ينتقد نقدا هداما. فمن عرفك من خلال دروسك و خطبك يعلم يقينا أنّك لستَ
إلا نصوحا قوالا لكلمة الحق. أسأل الله ألا يحرمنا من دُررك النفيسة.
ملاحظة: أعتذر لطول الشرح.
الرئيسية 
الخميس 29 ديسمبر 2022 - 11:57
موضوع: تعقيب على رد الشيخ توميات عبد الحليم، فيه شرح و تفصيل 
الثلاثاء 5 مايو 2009 - 16:39
