الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه، أمّا بعد:
حديثنا هذا موجّه إليكِ أيتها الأمّ التي تمنيتِ بعد الزواج أن ترزقي أطفالا، ثمّ جاء الطفل فكانت العناية به كبيرة، وكان الرِّفق والحنان يفيضان عليه كلما أرضعته أو قمت بتنظيفه، فكم سهرت لينام، وكم تألمتِ لوجعه، وكم... وكم...
لازال ينمو، وحركته تزداد يوما فيوماً حتى اشتدّ عودُه، وقام يمشي، فكان نصحُك له، وتوجيهه إلى الصّواب، وتقويم سلوكه الخاطئ هو مسلكُكِ كلما تصرف تصرفا خاطئا، فما أن تكرّرت أخطاؤه وزاد اعوجاجه ولم يُنتَصح حتى تكرّرت منكِ الإرشادات وازداد حرصك على تعليمه وإلزامه باتبّاع الصواب.
لكنه كثر الحركة، كثير الصراخ، كثير اللّمس، لازال يكرّر نفس الخطأ، فهاهو قد كسّر من جديد أواني المطبخ، ولطّخ أثاث البيت بالأكل واتّجه إلى أغراض والده فخرّبها، وقطع أوراقا مهمة، فلازال يحرجك أمام الأقارب وأمام الضيف وفي المسجد حتى تغيّر سلوكك نحوه وازداد غضبك وأصبح الصراخ هو أسلوب خطابك مع طفلك ومعاتبتك إياه يتخللها الدعاء عليه، فإياك وهذه المعاملة فقد تَهلكين وتُهلكين.
تَهلكين بأن تكتسبي خلقا فاحشا ببذاءة لسانك وتُهلكين إذا استجيب لك.
في ((صحيح مسلم)) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لاتَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ شَاعَةً يُسْأَلُ فِها عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ))(1).
فإن كان لابدّ من الدعاء فليكن له، لاعليه، فعوّدي لسانك_وأنت غاضبة_ الدُّعاءَ بما يعود بالخير على طفلك، كأن تقولي: ((يعطيك الله الهدى والصّلاح...))، وتذكّري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من ربَّى وبه يُقتدى:((لم يكن فاحشًا ولامتفحِّشًا))، وكان يقول:(( إنّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْشَنَكُمْ أَخْلاقًا))(2).
تريدين إصلاح سلوك طفلك، لكن صار الضرب بالنسبة لك هو الحل المجدي الذي يؤتي ثمرته في حينه، فكيفُّ الطّفل عن اعوجاجه خوفا من العقاب.
لاشكّ أنّ الضّرب مشروع، لكن له شروط، منها أن لايُلجأ إليه إلا بعد أن تنفذ كلُّ وسائل الإصلاح الأخرى، وأهمُّها_دون الملل منها_ تكرار النصح والتوجيه بكل رفق ولين((إنّ الرفق لايَكُونُ في شَيْئٍ إلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنزَعُ مِنْ شَيْئٍ إلاَّ شَانَهُ))(3).
إنّ التكرار بالنُّصح شُرِع في الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاّةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِين وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وفَرِّقُوا بينهم في المضاجعِ))(4).
ها قد أُمرنا قبل الشُّروع في الضَّرب أن نكرِّر النُّصح في كل يوم خمس مرات لمدة ثلاث سنين في أهم مسائل الدين، فهل نكرر النُّصح في غيرها من المسائل قبل الشروع في الضرب ولو ثلاث مرات يوميا لمدة سنة كاملة؟!
فإذا لجأتِ إلى العقاب الجسدي، فلْيَكُنْ غرضك هو تعديل سلوك طفلك، لانصرة لنفسك، لأن طفلك أغضبك، هذا حتى لا تتولّد لديه أنّه عوقب، لأنه ضعيف وأنت قوية، فينتظر الفرصة حتى يكبر ويشتد عوده فيضرب إخوته الصغار، لأنهم ضعفاء ثم أبويه بعد أن كبروا وضعفوا.
وحين تمتد يدك لضرب طفلك تمثَّلي معاوية ابن الحكم السّلمي رضي الله عنه يتكلم على لسان طفله فيقول لك:"مارأيت معلما قبله ولابعده أحسن تعليما، فوالله! ماكَهَرَني ولاضربني ولاشتمني"(5).
حينها ماذا كنتِ فاعلة؟!
تريدين إصلاح سلوك طفلك، ولكن والده لايساعدك، بل يزداد غضبك وغيضك إذا حضر الأب، ووجَّه لك اللوم على ماأحدثه الطّفل من فساد وخراب، ذلك أنّ التقصير دائما حليفك وعدم الرّعاية الجيِّدة هو النّقد الدّائم الموجه إليك.
حينها تقابلين تصرُّف الوالد بنقدٍ مماثل يتكوّن بعده شجار بينكما، يكون سببه هذا الطّفل الذي غمرتكم به السعادة حين وُلد ومازالت هذه السعادة تتلاشى وهو ينمو حتى تكاد تزول.
أين أنتِ من آسيا بنت مزاحم، حيث ربّت موسى عليه السلام في كنف فرعون الذي طغى وأين أنت من مريم ابنة عمران التي قامت بتربية عيسى عليه السلام ولم يكن له أب، فكان أن جعله الله عز وجل من أولي العزم من الرسل.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((كُلُّكُمْ رَاعٍ فمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُم)) الحديث(6).
قد استرعاك الله أولادك، فما ظنُّك أن يكون جزاؤك عند ربك إذا أحسنت رعيك؟
هذا، وماأردت إلا الإصلاح مااستطعت، وماتوفيقي إلا بالله، وإليه المآب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)رواه مسلم في ((صحيحه)) (7705)
(2) رواه البخاري (3056/6)، ومسلم(2321/15).
(3)رواه مسلم(6767).
(4)رواه ابن أبي شيبة وأبو داوود والدارقطني والبيهقي وأحمد،((الإرواء)) (247).
(5)رواه مسلم (537/5).
(6)رواه البخاري(3558/5)، ومسلم(1829/12)