كل من قرأ صحيفة من تاريخ الإسلام من يوم أن طلع فجره إلى اليوم يتحقق أن تغييرا هائلا طرأ على الأمم الإسلامية في عصورها الطويلة و لا نستثني إلا القرون الثلاثة و هذا التغيير في العالم الإسلامي في تضاعيف ألف سنة وكسور قد شمل الأمة في مقوماتها كلها فما نجت منها الآداب ولا سلمت الأخلاق و لا بقي العمل بالدين بأصوله و فروعه و عقائده و أخلاقه كما تركه محمد صلى الله عليه وسلم .
و لو صح أن يبعث من قبره ليرى الأمم المنتسبة إليه لقال بعبارته الصادقة ٌٌ ما بهذا بعثت إليكم ٌٌُ ، و كل أحد يتحقق أن هذا التغيير في الأمم الإسلامية عامة و الجزائرية التي أرمي إليها في تقديري هذا خاصة سببه عدم وجود الإرشاد و المرشدين فإذا وجد رأيت الأثر بينا في العلوم و الآداب و إذا فقد رأيت الضعة و الجهل يعملان في الأمة عملهما المميت.
و من ذا الذي لا يعترف بأن الروح الإسلامية التي تنبت عليها الأخلاق و الآداب و العمل بالدين كانت في العصر النبوي قوية حتى أن الكاتب إذا كتب فيها باعتدال خالها الجهال أنها مبالغات شرقية .
و أي عالم لا يعترف بأن الذي ينفخ في الجسد الإسلامي هذه الروح القوية إنما هو محمد صلى الله عليه و سلم بما كان يقوم به من الإرشاد بمحادثاته و دروسه و خطبه و أمثاله و قصصه فإذا تلك النفوس الغليظة قديما تلين و إذا تلك الطباع الوحشية الجاهلية تتحول أخرى رحيمة للإنسانية و إذا بسوق الرذائل الجاهلية يكسد بل يغلق و يفتح في العالم سوق أخرى تنفق و تروج فيها أخلاق القرآن و السنة .
إن العلماء ورثوا الأنبياء و كان هذا الميراث صادقا في صدر الإسلام فتولى علماء السلف نيابة عنه صلى الله عليه وسلم ترقيق القلوب القاسية و إنارة البصائر المظلمة فصلحت قلوب المسلمين و حافظ أهل الإسلام على الواجبات فصح للعلم أن يقول لأولائك العلماء أنتم ورثة الأنبياء لأنهم ورثوهم في تبليغ الدين تدريسا و تأليفا و خطابة و محادثة .
إستمر علماء الإسلام محافظين على هذا الميراث النبوي إلى أن نسب العلم إلى غير أهله و انتحلوا من لا يفهمه و لهجت العامة بتسمية الجهلة علماء و دخل في العلم الإسلامي اختلال و دب في جسمه فتور و أخذت كلمتهم تتفرق و يتولى زعامتهم الدينية و العلمية من ليس بأهل للزعامة فصرف الإرشاد الإسلامي عن مجراه الأصلي و عن رجاله الحقيقين إلى قوم آخرين و بدلت لغة الإرشاد المؤثر بلغة أخرى ميتة لا تصلح إلا لتلقى في المقابر على الأموات و استعيض بمواد وعناصر أخرى تحمل في ثناياها و تحت آباطها التضليل و صار الإرشاد الإسلامي يتولاه من يستمد مواد إرشاده من منامات هي تخليط الشيطان و ألاعيبه و من خيالات الدجاجلة و أقاصيص الرجال الذين لو عرضت أقوالهم على الدين لردها.
فنشأ لا في لغته و لا في روحه و لا في مادته و لا في صفات أهله تبدل كبير في الأمم الإسلامية عامة و هذه الأمة التي كانت لها البلايا على ميعاد خاصة و الإرشاد المحيي للأمم قد فقدته هذه الأمة من زمن طويل في أغلب الجهات و أكثر الأوقات .
إن الإرشاد هو الذي يحي القلوب الميتة و يزرع الفضائل في الأمة و يكثر العاملين بالدين الحق فإذا ترك أو أهمل أو استعمل بغير لغته أو استمد من غير أصوله و عناصره أو تولاه من لا يعرفه فإن الدين الإسلامي الذي نزل به جبريل و تلقاه محمد صلى الله عليه وسلم من ربه تنطوي محاسنه و تتبدل أخلاق أهله و يترك الناس العمل بالدين و هذا ما جرى لهذه الأمة إلا من رحم ربي من زمن لست أعرف ابتداءه تاريخيا ولكني أستطيع أن أحدده بظهور آثار التغيير في هذه الأمة و أزعم أنه يبتدئ من يوم أضاع الناس السنة المحمدية و الأخلاق الإسلامية و ظهر في الشعب رؤساء ينسبون إلى الدين فكان وجودهم سببا في انقسام في الوحدة و اختلاف في الكلمة و ذيوع للأهواء و تحيز جماعات الأمة الإسلامية إلى نزعات تفت عضد الوحدة المقصودة للدين حتى أصبح الحب و البغض ليسا في الله كما هي القاعدة الدينية و اتخذ الناس رؤساء جهالا بدعيين يعدونهم من أولياء الله و خواص عباده المقربين عنده ففتنت بهم جهلة الأمة و أشباه الجهلة فتصوروهم على عماية و اتبعوهم على غواية و صار الدين المعصوم ألعوبة بيد هؤلاء الرؤساء و أتباعهم و ظهر صدق أبي القاسم صلى الله عليه و سلم { بدأ الدين غريبا و سيعود غريبا كما بدأ ...} إن واجب علماء الأمة الحقيقين لا الغاصبين لهذا الاسم يقضي عليهم أن يحييوا الإرشاد الإسلامي و يعيدوه إلى سابق عهده حتى يأتي ثماره الطيبة و نتائجه المحددة و يومئذ يفرح المؤمنون بانتصار السنة على البدعة و العلم على الجهل و الهداية على الضلال.