مبحث في النية ـ قيدتها من مجالس الشيخ محمد علي فركـــــــوس

19/01/2009

مبحث مُـهمّ في النّيّة

مقدّمة

ـ مبحث النيّات مبحثٌ عظيم القدر ؛لما لهـا في ديننـا من مكانة ولما لعمل الباطن من أهميّة لقبول الأعمال ..فهي أحد شرطـيّ قبول الأعمال ،ولمّا كانت هذه الأهميّة رأينا إفراد مباحثها اختصارا على قدر الحاجة !

تعريف النّيّة :

معنى النّيّة لُغة: من نوى الشيئ،ينويه – نواه – أصلها نَوْيَة،وزْن فعلة ،اجتمعت الواو الساكنة مع واو التجانس .
وتجمع على نيّات باعتبار تنوعـاتها ،المراد بهـا القصد.
وعند الفقهاء: تستعمل على معنى العزم ..

واصطلاحا : قال ابن القيّم رحمه الله :<<الكلام في مسألة النية شديد الارتباط بأعمال القلوب ومعرفة مراتبها وارتباطها بأعمال الجوارح وبنائها عليها وتأثيرها فيها صحة وفسادا وإنما هي الأصل المراد المقصود وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة وأن النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها وكذلك أيضا لا يتحقق الكلام في المسألة إلا بعد معرفة حقيقة النية وهل هي من جنس المعلوم والتصورات أو من جنس الإرادات والعزوم أو حقيقتها مركبة من الأمرين وأما من قبيل انبساطها وانقسامها على حروف معينة لكل حرف منها جزء من أجزاء النية فلم يحصل معنى النية فضلا عن ان يتمكن من رد قول منازعه في اعتبارها>>اهـ [بدائع الفوائد 3/705]
ـ فالنيّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :جزء منها أعمّ وجزء عام والثالث خاصّ.
أ/الأعـمّ:عمل القلب ووجهة القلب وتيمنه ،وهو غير مانع لدخول 1/العمل الإرادي{عزم ونية} ، والنية غير الحازمة (كالهاجس والخاطر وحديث النّفس والهم وحديث النفس والشهوة والوسوسة ،والمشيئة ) فهذه نيّة غير جازمة .
أمّا الجازم (القصد والعزم)
2/العمل غير الإرادي : كـ(الرغبة،الكراهية،الخجل ،الخوف المحبة،)
وهذا من باب إطلاق الكـل وإرادة الجزء..فلا يمثل جانبًا واحدا..
ب/العامّ: قال القرافي رحمه الله في كتابه المنية في إدراك النيّة:<<قصد الإنسان بقلبه ما يريد فعله >>[أنظر طبعة دار الفتح بالشارقة].
وقال البيضاوي:<<عبارة عن انبعاث القلب لما يراه محقّقًا لغرض جلب النّفع ودفع الضرّ>>.
ج/الخاص: وهو الإرادة المتوجّهة نحو الفعل ابتغاءًا لمرضاة الله وامتثالا،وقصد الطّاعة بإيجاد الفعل أو الكفّ عنه يحدّد الجهة من القلب الإرادة الجازمة.
ولابدّ من إرادة التقرّب لله عز وجلّ ؛والامتثال .
ما حكمها :
جـمهور أهل العلم من المـالكيّة والحنفيّة والحنابلة وـ بعض الشافعيّة ـ يقولون أنّ النيّة شرطٌ في العبادات ، [أي شرط صحّة ]لحديث عمر رضي الله عنه {إنما الأعمال بالنيّات}.
والفرقُ بين الركن والشرط :

كون الشرط: خارجـاً عن ماهيّة الشيئ .

وأكثر الشّافعيّة على أنها ركن .
وتعريف الركن: هو الذي يتم به الشيئ والماهيّة متوقّفةٌ عليه .
أي النيّة : تقارن العبادة وتقارن الفعل فتبقى هي رُكن .
مثال:
الوضوء :شرطٌ في قبول الصلاة فالوضوء عبادةٌ مُستقلّةٌ عن الصلاة ، بخلاف النيّة فلو قطعها لانقطع العمل .
وقال بعضهم [كأبي حامد الغزالي]:النيّة ركن في الصوم ،ووفي الصلاة شرط [وغيره يرى العكس]..

هل النيّة مُتَقَدّمـة على الفعل أو تنتظم مع الفعل انتظاما ؟:

من اهل العلم من رأى التقديم في البعض وفي البعض لا .
ومنهم من قال في البعض شرط وفي البعض لا .
- النية تتوقف عليها صحة العبادة ويتوقف عليها حصول الثواب.[وهذه تعدّ ركنا].
أما الأعمال الي تصح بدون تلك النيّة ..ولكن يتوقّف الثواب على اشتراط وجود النيّة .كالمباحات وترك المعاصي ورد المغصوب والنفقة على الزوجات وعلى الأقارب فهاته الأفعال تصحّ من غير نيّة لكن يتوقف الثواب على النيّة ..عكس الصلاة والصوم والحج .
الحكمة من النيّة :

الحكمة منها شرعيّة :
الحكمة الأولى:

تمييز العبادات عن العادات.
فتمييز العادي عن العبادي يكون بالنيّة .
مثال:
الغسل لرفع الحدث = عبادي .
الغسل للتبرُّد ورفع الأقذار= عادي .
مع أنّ الفعل هو نفسه إلاّ أنّ النيّة هي التي ميّزت بينهما.
مثال آخر:
ـ الجلوس في المسجد:
إمّا لدرس وإمّا استراحة أو لانتظار الصلاة أو اعتكاف ..فهذا جلوس من حيث الفعل واحد لكن تُميّزه النيّة.
أمثلة اخرى في تفريق النية للفعل الواحد:
كمن يصوم للحمية تداويا ـ وبين الصيام تقربا .فالنية هي التي تفرّق بينهما.
الأضحية :
فمنها ما يكون للتغذية ومنها ما يكون نُسُكاً ومنها ما تكون عقيقةً ،ومنها إكراما للضيف ومنها قرابين لغير الله عز وجلّ فالنية تؤثّرُ في الفعل.
المال:
منه ما يكون زكاة ،ومنه ما يكون صدقات ،ومنه ما يكون التماسا لما عند الله ، ومنها ما يكون للدنيا.
الحكمة الثانية:

تمييز مراتب العبادات:
كتمييز الصلاة المفروضة عن النافلة ، والصلاة المطلقة من المقيَّدة.راتبة أو غير راتبة ، منذورة وغير منذورة ،التفرقة بين الصلوات الخمس ، بين الأذان والإقامة ،بين الأداء والقضاء، بين العيدين والاستسقاء .فالنية هي التي تميّز.
ـ لو صلى العصر في وقت الظهر ولم يكن مسافر أو به حرج ما تُجزئ ولا يُجزئ القضاء عن الأداء،والعكس..
والزكاة كذلك :
تُفرّق بين الواجبة والصدقات على سبيل النذر،
والصوم كذلك:
تفرق بين الواجب وبين الكفارات والنذر.والتطوع.
والحج:
تفرّق بين الحج والعمرة وحج الفريضة وحج التطوّع.
فاحتجت للنية لتعيّن العبادة لكي لا تتداخل ،.
الحاصل:
أنّ الحكمة من مشروعيّتها :
1/تمييز العبادات عن العادات.
2/تمييز العبادات في مراتبها.
وبالتالي تكون :خالصة لا تلتبس بالعبادات الأخرى .
**وهنهاك أعمالٌ لا يشترط فيها نية زائدة عن وجه العمل ،كالإيمان بالله وتعظيمه ،والأذكار ،وقراءة القرآن فيكتفى فيها بقصد الفعل ،إلاّ إذا كانت قراءة منذورة.
ـ ولا تحتاج النية إلى نيّة لأنها تنصرف مباشرةً.
مسائل اختلف فيها أهل العلم :

1/الأقوال.
2/التروك.
3/أعمال القلوب..

1/الأقوال

هل تُشترط النية في الأقوال؟
سبب الاختلاف هو هل تدخل في مسمّى الإيمان أم لا ؟
ـ فمن قال لا تحتاج إلى نية : استدل بحديث إنما الأعمال .. فقال حصر النية في الأعمال ..[يقصد عمل الجوارح فقط]
ـ الثاني قال تشترط النية : واستدل بحديث عمر رضي الله عنه [إنما الاعمال ] وقال أنا الأقوال من جملة الاعمال يعني تدخل في مسمّى الإيمان.
وهذا القول هو الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم.وهو دخولها .
لقوله تعالى كنايةً {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }[المؤمنون100]

وقوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِغُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }[الأنعام112]
فسمى القول بالفعل ، ومعنى ذلك دخوله .
وقول النبي صلى الله عليه وسلّم :{من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه}[مشكاة المصابيح]
ـ دلّ ذلك على ان القول عمل ـ
وقوله صلى الله عليه وسلّم كما في حديث معاذ بن جبل قال{ ما عملالعبد عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله .}{ رواه مالك والترمذي وابن ماجه }
فجعل ذكر الله عملا.
وهذه الأدلّة تدل على ان الاقوال داخلة في مسمى الأعمال.

وإذا دخـــلةً وجب التفريق بين:

قصـد الفعـل والإخلاص.
1/قصد الفعل:
ـ يُنظر إلى الاعـمال إذا كـانت خالصـةً لا تلتبسُ بغيرهـا فهنا لا تشترط النّيّة .
ـ أمّـا إذا كانت تلتبسُ بغيـرهـا فتُشترطُ النّيّة .
2/ الإخـلاص:
ـ هو شـرطٌ لقَبول العمل ،[ومعه المتابعة] .
*فالنيّة تُعَيّنُ زائدَ الإخلاص .
ـ ومن نظائر الأقوال:
الأذان :فالأذان لا يلتبسُ بغيره ،إلاّ باقْتـران العبـادة ..
خُطبةُ الجُمُعة:لا تشترطُ فيهـا نيّةٌ زائـدةٌ لأنّها لا تلتبسُ بغيرهـا..
2/التـروك:

قال الجمهـور:لا يُشترط في التروك نيّة ،لأنّ الترك ليس فيه حـركـة ، ولا تدخل التروك في مسمّى الأعمـال ..
والمذهب الصـحيح:
ـ أنّ الكـف يُعَدُّ فعـلا ويدخل في مسمّى الأعمال..
الدليل من الكتاب :
{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[المائدة63].

والصُنع أخصّ من الفعل: فالصنعُ فعلٌ داخل في مسمّى الأعمال.
وقوله تعالى:{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المائدة79]

- وقوله تعالى : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }[الفرقان30]
ـ دلّ على أنّ الترك فعـلٌ:
من السنة :
قوله صلى الله عليه وسلّم : {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده}[متفقٌ عليه].
ـ فجعَلَ تـرك الأذى إسلامـا .
كلام العـرب:
ـ لإن قعدنا والنّبي يعمل **فذاك منّا العمل المضلَلُ
فجعل الترك عملا مضللا .
دلّ على دخوله في مسمّى الإيمان ...
أعمال القلوب:
داخلة في مسمى الإيمان، وهي مشهورة معلومة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر..والجنّة والنّار ..
قال ابن القيم رحمه الله:{...لله على العبد عبوديتين عبودية باطنة وعبودية ظاهرة فله على قلبه عبودية وعلى لسانه وجوارحه عبودية فقيامه بسورة العبودية الظاهر مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه ولا يوجب له الثواب وقبول عمله فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر فعمل القلب هو روح العبودية ولبها فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح والنية هي عمل القلب الذي هو ملك الأعضاء والمقصود بالأمر والنهي فكيف يسقط واجبة ويعتبر واجب رعيته وجنده واتباعه اللاتي إنما شرعت واجباتها لأجله ولأجل صلاحه وهل هذا إلا عكس القضية وقلب الحقيقة والمقصود بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه..}[ بدائع الفوائد:3/710]..

[انتهى ملخصـا من مجالس الشيخ محمّد علي فركوس حفظه الله بمسجد عمر بن الخطّاب بلوزداد بالعاصمة...]
[ قيده من الحلقات وكتبه ونسخه عمر بن محمد البومرداسي]

__________________

[size=29]مدونة الشيخ العيد شريفي

http://3idecherifi.blogspot.com

[/size]

05/06/2009

احسن الله إليك اخي وزادك إجتهادا

أمر طيب أن نجد من طلاب العلم من همتهم عالية ..

وان يشغلهم الطلب والتزود عن سفاسف الامور وأعراض الرجال

حفظ الله علم الجزائر ومفتيها الشيه فركوس

21/01/2009

جزاك الله خيرا أخي عمر

21/09/2009

بارك الله فيكم

14/06/2009

جزاك الله خير الجزاء

جزء مهم طرحته و خاصة فيما يتعلق بامر النية

طرحت نقطة مهمة و هي اهم المسائل التي اختلف فيها العلماء

و من بين المسائل ذكرت التروك

هذه النقطة لم افهمها و اتمنى ان توضحها اكثر

كيف يعني اذا كنت اريد ترك شيء لا يشترط نية ؟

جزاك الله خيرا

19/01/2009

نعم :

التروك مختلفٌ فيهــا كما بين الشيخ ، ومسألة التروك حقيقة مسألة واسعة ليست فقط من الناحية التي تطرق غليها الشيخ حفظه الله ، وسيأتي بيانها
وسنفرد له في غير هذا المكان بحثا خاصا ..إن شاء الله

26/01/2009

نحن في انتظار رؤية بحثك المفرد يا أخي عمر
جزاك الله خيرا
اللهم احفظ شيخنا محمد علي
آمين

18/03/2009

بارك الله فيك ونتمنى رؤية مبحثك المنفرد عن التروك

28/08/2010

بارك الله فيك على هذا الجهد ....ولكن نبقى على يقين ونقول وبتدبر الحديث (انما الأعمال بالنيات )و(لكل امريء مانوى)عندما تقدم العبد بعمل مهما كان واجب اومستحب وكانت النية فيه لغير الله تعالى ماذا يكون ثوابه وقبوله ...مثلا كمن زار مريضا بنية الرياء او كمن طلب علما بنية المجادلة واظهار السطوة والتفاخر على الناس او كمن يصلي في المساجد كثيرا لكي يقال ل\عنه انه من العابدين او الساجدين اويكرم الناس الفقراء حتى يقال عنه انه كريم .........كل هذا غير صاحب النية بالتقرب الى الله تعالى لايريد الا رضا الله فيها وتعميق وترسيخ مباديء واحكام الله بين خلقه ومايريد فيها الا الطاعة لله ....ان الله يجازي العبد بحسب نيته فمن عمل نية القربة لله وهو مخلص فيها (والأخلاص هو انطباق النية في النفس مع الواقع فعلا)فأجره وقع على الله واما كانت نيته لغير الله تعالى فيقول الله تعالى له اذهب ونل اجرك من فلان وفلان او من الرياء او من الناس وليس عندي لك يامشرك في نيتك الخبيثة سوى النار ...اذن النية شرط وركن في الأعمال مهما كانت مازال العمل يبطل بالنية الخبيثة ويقبل بالنية الصالحة والسلام على عباد الله الصالحين .

» ألبوم مجالس مسجد أول نوفمبر 1430 هـ | للقارئ محمد الإبراهيمي
» مجالس شهر رمضان، للشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله-
» بشرى:غدا ستناقش رسالة الدكتوراه للشيخ محمد حاج عيسى بإشراف الشيخ محمد علي فركوس
» جوانب الإصلاح في دعوة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي . بقلم محمد لوزاني الجزائري _حفظه الله_
» فوائد منتقاة من مجالس الشيخ أبي عبد المعز فركوس... متجدد بإذن الله

مبحث في النية ـ قيدتها من مجالس الشيخ محمد علي فركـــــــوس

مبحث في النية ـ قيدتها من مجالس الشيخ محمد علي فركـــــــوس

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة